الجزء السادس و السابع
عزﻻء امام سطوة ماله
_ تهديد ! _
وصلت "سمر" إلي بيتها أخيرا بعد أن أطمئنت علي "ملك" و تعرفت علي أسباب علتها ..
أمسكت "ملك" بيد ، و باليد الأخري أدارت المفتاح في القفل ، ثم دفعت الباب و دخلت و هي تتنفس بصورة غير منتظمة بسبب درجات السلم الكثيرة التي صعدتها ..
أغلقت الباب بروية ، و أستدارت لتنظر في عمق الصالة
بالطبع .. كان "فادي" هناك ، واقفا في محاذاة الحائط قبالتها ، في الظل وراء باب النافذة المفتوحة ..
كان ينظر إليها صامتا ، وجهه جامد قاسٍ و جسده متوتر
لم يصعب عليها كثيرا فهم أنه شاهدها من خلال النافذة و هي تترجل من سيارة "عثمان" هذا بدا واضحا جدا من نظرات العنف و الإتهام المنطلقة كالأسهم من عينيه ..
إنقبضت في إنتظار السيل الجارف من اللوم و الإهانات
لكنه لم يأت بحرف ، بقي متفرسا في وجهها ، توقعت أنه لا يقو علي الكلام من شدة الغضب ، فباشرت هي بتبرير ما قامت به ..
سمر و هي تقول بإبتسامة مرتبكة :
-فادي ! .. إنت رجعت يا حبيبي ؟ أنا إتصلت بيك كذا مرة قبل ما أنزل عشان أقولك إن ملك سخنت فجأة بس إنت ماكنتش بترد ، فإضطريت أخدها أنا علي المستشفي .. و ألقت نظرة نحو الطاولة في الوسط حيث نسيت هاتفهها ، و تابعت :
-بس نسيت الموبايل هنا .. أسفة ، أكيد إنت إتصلت بيا كتير !
سمعت صدي حشرجة في حنجرته ، لكن بقيت ملامحه علي حالها ، إلي أن تحرك أخيرا و قال بهدوء شديد يختبئ ورائه غضب عظيم :
-سمر .. يا ريت من فضلك تشرحيلي دلوقتي حالا مين الشخص إللي جابك لحد البيت بعربيته ده ؟ و إيه هي علاقتك بيه بالظبط ؟؟؟
أخذت تتنفس بسرعة ، بينما إتسعت عيناه و كانتا باردتان و قاسيتان جدا ..
-علاقة إيه و زفت أيه ؟ .. صاحت بصوت عالٍ ، و أردفت بغضب :
-هو أنا لاقية آكل و لا آكلوكوا لما هروح أعمل علاقات ؟ إنت إتجننت ؟؟!
فادي بعصبية و هو يقترب منها :
-أومال تفسري إللي لسا شايفه بعنيا ده بإيه ؟ تفسري بإيه ركوبك عربية زي دي مع واحد زي ده ؟ و بعدين مين ده أصلا ؟ عرفتيه منين ؟؟؟
-ده يبقي صاحب الشغل يا مجنون .. أجابت بصراخ ثائر :
-ده يبقي عثمان بيه إللي حكيت لسيادتك عنه ، ده يبقي الإنسان الوحيد إللي وقف جمبنا و ساعدنا بعد ما كل الناس جم علينا و ظلمونا ، و شوف كمان .. و رفعت كيس الآدوية التي أوصي بها الطبيب لشقيقتها ، و أكملت :
-أصر إنه يشتري الدوا لملك رغم إنه دفع حق الكشف عند أكبر دكتور أطفال هنا في إسكندرية !
فادي متسائلا بحدة :
-و هو إيه إللي يخليه يعمل معانا كل كده أساسا ؟ عاشقنا في الضلمة !! .. نطق جملته الأخيرة بتهكم لاذع ، ثم قطب بإستغراب مكملا :
-و بعدين تعالي هنا ؟ إنتوا إتقابلتوا إزاي ؟ لما هو ماكلمكيش عشان تروحي تستلمي الوظيفة إللي قالك عليها ! شوفتيه إزاي ؟؟!!
تنهدت "سمر" بضيق ، لكنها حكت له كل ما حدث ، بدءاً من عراكه مع موظفة الإستقبال بالمشفي ، و حتي عودتها إلي هنا بعد أن قام بتوصيلها ..
-أنا بردو مش مقتنع ! .. قالها "فادي" بعدم إقتناع ، و أردف بشك :
-بيعمل معاكي إنتي بالذات كده ليه ؟ .. إشمعنا إنتي يعني ما المحتاجين كتير !!
سمر بسخرية :
-و إنت إيش عرفك إنه مش بيعمل كده مع ناس كتير ؟ عمرك ما شفت حد بيعمل خير مع ناس كتير ؟!!
لم يرد و ظل ينظر إليها في عدم إقتناع ..
فأدارت عيناها بضيق و هي تطلق زفرة حانقة ، ثم إختفت من أمامه بسرعة متجهة إلي غرفتها ، و أخذت "ملك" معها ...
في مستشفي الأسكندرية العام ..
يعود "عثمان" إلي هناك و يصعد للطابق الثالث ، ليخبره المسؤول عن الدور بأنه تم نقل "صالح" إلي غرفة عادية لإستكمال العناية به ..
ذهب "عثمان" إلي غرفة رقم (407) حيث أرشده المسؤول ، ليجد أنها ليست غرفة بالمعني الحرفي ، و إنما هي مجرد عنبر كبير إكتظ بالمرضي بمختلف أنواعهم
رجال ، نساء ، و أطفال ..
وقف مشدوها للحظات يحدق في كمية الإهمال و المناظر المريعة الممتدة أمام ناظريه ، لكنه ما لبث أن راح يبحث بعيناه عن أفراد عائلته وسط هذا الكم الهائل من الناس
وجدهم بصعوبة .. هناك ، جمعيهم يقفون بركن قاصي من العنبر ملتفين حول سرير معين .. لابد أنه السرير الذي يرقد عليه "صالح" ..
-مساء الخير يا جماعة ! .. قالها "عثمان" و هو يقترب بخطوات واسعة ثم يقف بجوار والده الذي ما أن رآه حتي صاح به :
-إنت كنت فين يا بني آدم من الصبح ؟ و بكلمك قافل تليفونك ليه ؟ إزاي تسيبنا في موقف زي ده ؟؟؟
عثمان بفتوره المعتاد :
-كان ورايا مشوار مهم خلصته و رجعت علطول أهو .. ثم توجه بالنظر نحو عمه و "هالة" و قال :
-حمدلله علي السلامة يا عمي ، حمدلله علي السلامة يا هالة.
تجاهله "رفعت" متعمدا و أدار وجهه للجهة الأخري ، لكن "هالة" لم تفعل ..
هالة بصوتها الرقيق و المغلف بالحزن :
-الله يسلمك يا عثمان .. إزيك ؟
-تمام الحمدلله .. قالها بإبتسامة قصيرة ، ثم عاد إلي والده و قال و هو يصوب نظره نحو "صالح" الموارى تحت طبقات من الجبس و الشاش :
-إنتوا إزاي لسا مستنين هنا ؟ إزاي ما طلبتوش نقله لمستشفي خاصة ؟؟!
"يحيى" بنظرة عابثة :
-و إحنا كنا مستنين رأيك مثلا ؟ عملنا كده يا حبيبي ، حجزناله أوضة في أحسن مستشفي و خلاص عربية الإسعاف علي وصول.
أومأ "عثمان" متجاوزا رنة الإستهزاء في نبرة والده ، ثم إستأذن منهم لدقيقة و خرج أمام العنبر ليجري مكالمة خاصة ..
في منزل "رشاد الحداد" .. داخل حجرة الطعام
يترأس المائدة كعادته بوقاره و هيبته الطاغية ، إبنتيه تجلسان معه ، الكبيرة علي يمينه ، و الصغيرة علي شماله ..
يتم الغداء في جو صامت متوتر ، لا يُسمع خلاله سوي أصوات الملعاق و بقية آدوات الطعام و هي تحتك بالصحون و الأطباق ..
يرن هاتفهه فجأة ، فيخرجه من جيب سترته و ينظر إلي إسم المتصل ... "عثمان البحيري" !!!
تصلبت عيناه عند رؤيته للإسم ، و لاحظت إبنتيه جمود تعابير وجهه
لكنه أعطي أمر بالتحفز لجميع حواسه ، و أجاب بنبرة تحدٍ :
-أهلا بالغالي !
صمت قصير علي الطرف الأخر ، ثم جاء صوت "عثمان" الناعم كجلد الأفعي :
-إزيك يا رشاد بيه .. إنشالله تكون كويس !
-كويس جدااا يا عثمان.
إنتفضت "چيچي" إثر سماع إسمه ، و مضغت الطعام بصورة خاطئة مما تسبب لها في نوبة سعال حادة ..
جاءتها أختها بكأس من الماء ، بينما تابع "رشاد" مكالمته :
-فيك الخير و الله يا عثمان .. بتتصل عشان تسأل ؟ بجد العيش و الملح مابيهونوش.
عثمان بضحكة مجلجلة سمعتها "چيچي" جيدا منبعثة من سماعة الهاتف :
-هو أنا أه ممكن أتصل أسأل عليك بس المرة دي أنا إتصلت عشان حاجة تانية.
-خير يا عثمان ؟؟ .. تساءل "رشاد" ببرود ، ليرد "عثمان" و قد تحولت نبرته تماما من اللين إلي الغضب الشديد :
-إسمعني كويس يا رشاد يا حداد .. إبن عمي في المستشفي دلوقتي بسببك ، أنا عارف إنك كنت قاصدني أنا ، بس خليني أقولك لو صالح ماقمش بالسلامة زي ما كان ، أنا همحيك إنت و بناتك من علي وش الأرض ده طبعا بعد ما أنشر الفضيحة التانية إللي لسا شايلهالك عندي.
رشاد بخشونة :
-فضيحة إيه ؟؟؟
-الفيلم الساخن بتاع بنتك المصونة .. قالها "عثمان" بصوته الخبيث ، و إستطاع "رشاد" أن يري الإبتسامة الشيطانية التي إرتسمت علي شفتيه الآن دون أن يراه ..
تابع "عثمان" بإسلوبه المنحرف الماكر :
-أنا لسا محتفظ بيه .. بصراحة لو تشوفوا هتفتخر ببنتك أوي ، ما شاء الله يعني مخلف ------- محترفة ، عارف لو كنت إتجوزتها أكيد كنت هتبسط معاها أوووي ، چيچي في نظري كانت أنسب بنت ، جميلة و بنت .. بنت عيلة ، بس نقول إيه بقي هي إللي إستعجلت و مشيت شمال ، و علي رأي المثل .. يا خسارة الجمال لما يمشي شمال .. ثم تنهد بخفة و قال :
-يلا بقي أنا مضطر أقفل دلوقتي ، بس يا ريت متنساش كلامي هه ! إفتكر كويس إني حذرتك يا رشاد بيه ، قبل ما تفكر تعمل أي حاجة تمسني أو تمس حد يخصني إفتكر الفضيحة بتاعة المرة الجاية و قدر حجمها كده هيكون أد إيه ... سلام يا باشا ، و إبقي سلملي علي چيچي ، قولها عثمان باعتلك سلام خصوصي أووووي.
و أغلق "عثمان" الخط و هو يضحك بشدة ، بينما جرش "رشاد" بأسنانه و إزدادت حمرة وجهه الغليظ ..
دوي فجأة صوت إنفجار علبة الصودا المغلقة التي كانت بين أصابعه ، فإنتشر السائل في كل مكان و بلل كلا من "چيچي" و أختها ..
لم تجرؤ واحدة منهما علي سؤال "رشاد" ماذا قال له "عثمان" ؟!
فآثرتا الصمت ، بينما غمغم "رشاد" و هو يشتعل غضبا و غيظا :
-بتعجزني يابن الـ--- .. ماشي ، ماشي يا عثمان !
في منزل "سمر" ... كانت بغرفتها
تغير لـ"ملك" ملابسها ، عندما ولج "فادي" في هدوء ممسكا في كلتا يداه كوبان من الشاي الأحمر ..
إقترب ببطء من السرير ، ثم مد يده إلي "سمر" قائلا :
-إتفضلي يا ستي ، عملتلك معايا كوباية شاي إنما إيه هتروقك عالأخر.
تطلعت "سمر" إليه في شك ، و لكنه بدا طبيعيا للغاية ، و كأن لم يحدث شجارا بينهما اليوم ..
أخذت منه كوب الشاي و لم تستطع إخفاء تعجبها ، فضحك بخفة و هو يسألها :
-إيه يا بنتي مالك ؟ مذبهلة كده ليه ؟!
سمر و هي تضع "ملك" في حجرها :
-أصل إللي يشوفك دلوقتي مايشوفكش لما كنت بتزعق و عصبي من شوية !
فادي بإبتسامة :
-و أنا يعني إتعصبت و زعقت ليه ؟ أكيد إنتي عارفة إني خايف عليكي .. صح ؟
سمر و هي ترد له الإبتسامة :
-طبعا عارفة يا حبيبي .. بس لازم يكون عندك ثقة شوية في أختك الكبيرة ، أنا دلوقتي يا فادي بقيت مكان ماما و بابا بالظبط ، إنت و ملك مسؤولين مني و واخدين كل وقتي ، يعني إطمن .. مافيش حاجة ممكن تشغلني عنكوا لا راجل و لا غيره ، أنا ماعدتش بفكر في مواضيع الإرتباط دي أساسا.
-طب أولا إنتي غلطانة .. لأن إنتي و ملك إللي مسؤولين مني أنا ، أنا هنا راجل البيت .. قالها بإسلوب مسرحي أضحكه و أضحكها معه ، و أكمل :
-ثانيا أنا واثق فيكي جدا جدا كمان ، لكن مش واثق في إللي حواليكي يا سمر ، ثالثا بقي و ده الأهم ليه يا حبيبتي مش بتفكري في الإرتباط ؟ لا تكوني عايزة تقعدي في أرابيزي ! لأ يا ماما ده أنا هزقك بدري بدري عشان أفوق لملوكة عمري أنا دي.
و راح يداعب أخته الصغيرة و يدغدغها من بطنها و أسفل إبطها فيجعلها تضحك بهستريا محببة لديه ..
-يا سيدي قول يا باسط .. قالتها "سمر" بإبتسامة باهتة ، ليرد "فادي" بحسه الفكاهي :
-يا باسط ياستي ، عايزاني أقول حاجة تاني ؟ ده إنتي قمر يا بت و بكره العرسان هيبقوا طوابير مش هلاحق عليهم يروح واحد يجوا عشرة لحد ما ألاقيلك الزوج إللي هو ، إللي عليه العين و النية.
ضحكت "سمر" من قلبها ، و قالت :
-يخرب عقلك يا فادي .. ضحكتني ، عرسان إيه إللي هيبقوا بالطوابير دول ؟ هيجوا علي إيه يا حسرة !!
-شوفي يا سمر يا حبيبتي ، إحنا مش أه معانا فلوس ، بس الحمدلله ربنا معوضنا بحاجات تانية.
سمر و هي تسأله بدهشة :
-ربنا معوضنا بإيه يا فادي ؟؟
أجابها و هو يأخذ منها "ملك" و يجلسها علي حضنه :
-أقولك ياستي .. مثلا ملك ، معوضها بينا إحنا الإتنين لما بابا و ماما ماتوا أنا و إنتي بقينا مكانهم بالنسبة لها يعني مش هتحس باليتم ، و أنا .. أنا بدرس الحمدلله و باقيلي السنة دي و هتخرج و هبقي مهندس زي ما كنت طول عمري بحلم باللقب ده .. و إنتي يا سمر ، إنتي أغني مني أنا و ملك.
سمر بفم مفتوح :
-هه ! غنية ؟ .. إزاي ؟!!
-ربنا مديكي وش جميل ، إنتي جميلة يا سمر ، و رأس مالك في جمالك .. أي راجل غني و معاه فلوس يتمناكي .. و رفع إصبعه السبابة مكملا بشرط :
-بس تعززي نفسك .. إوعي تحسسي إللي قدامك بحاجتك للفلوس ، ماتخليش حد يعرف نقطة ضعفك ، ده إللي أنا طول الوقت بحاول أوصلهولك ، لازم تستقوي شوية و ماتبقيش سهلة أبدا ، الكل بيحوم حواليكي و أنا علي أد ما بقدر بوقفهم عند حدهم ، لكن خوفي بقي من الناس إللي بتتعاملي معاهم برا .. مش عارف هتتصرفي إزاي لوحدك !
سمر بعد صمت طويل حاولت خلاله إحتواء حديث "فادي" كله داخل عقلها :
-إنت خيالك واسع أوي يا فادي .. أنا مش جميلة الجميلات علي فكرة ، و بعدين أنا مابشوفش حد بيحوم حواليا !
فادي مشددا علي كلامه بصرامة :
-عشان أنا موقف الكل عند حده زي ما قلتلك .. محدش هنا يقدر يهوب ناحيتك و أنا موجود.
رمقته بنظرات ساهمة و قد حلت علي ذاكرتها جميع المواقف ذات الدلالة علي كلامه
مثلا تذكرت مجيئ عم "صابر" مالك الشقة إلي هنا منذ أيام ، تذكرت كيف إرتبك عندما وجد "فادي" بوجهه و كيف أنه حاول إخفاء إرتباكه بكلماته اللاذعة
و تذكرت أيضا "كرم" شقيق الجارة "عطيات" التي تسكن فوقها ، كثيرا ما يدق بابها أثناء غياب "فادي" بحجة أشياء قام بإسقاطها رغما عنه من الشرفة بالأعلي فتدخل هي بحسن نية و تجلب إليه أشياؤه بإبتسامة رقيقة
و "مصطفي" الشاب الذي يملك محل كوي الثياب الرجالي ، هو الأخر يأتي بطلب ملابس "فادي" و لكن في غيابه طبعا ، و غيره و غيره ..
فهمت "سمر" معني كلام أخيها الآن عندما تجلت أمامها الأمور ، أحست و كأنها أخذت صفعة علي وجهها ، و لكن الصفعة مفيدة و جاءت بوقتها ، فقد أفاقت و أزداد وعيها بما يدور من حولها ..
-إيييه ياينتي ! روحتي فين ؟ .. قال "فادي" بتساؤل عندما أطالت في شرودها
بينما إنتبهت إليه "سمر" و قالت :
-أنا معاك أهو !
تمطي "فادي" بكسل و هو يقول :
-لا معايا إيه ، أنا هستأذنك بقي و هروح أنام مش قادر .. خدي الأميرة الصغيرة دي و نايميها هي كمان شكلها نعسانة.
و ناولها "ملك" ثم قام و مشي في إتجاه الباب ..
و لكن صوتها إستوقفه قبل أن يخرج :
-فادي !
فادي و هو يلتفت ثانيةً :
-في حاجة يا سمر ؟!
-أه .. كنت عايزة أقولك إني هبدأ الشغل من بكره.
-من بكره ؟ .. قال بدهشة ، و أردف بضيق :
-و عثمان بيه هو إللي قالك كده ؟
-أيوه.
زم شفتيه في إستسلام ، ثم قال :
-طيب يا سمر .. بس ملك مين هياخد باله منها ؟؟!
سمر و هي تطمئنه بثقة :
-ماتقلقش أنا إتفقت مع الحاجة زينب مرات عم صابر هسيبهلها الكام ساعة بتوع الشغل و هي هتاخد بالها منها ، ماتخافش يا فادي .. الحاجة زينب بتحب ملك و بتحب الأطفال عموما عشان إتحرمت منهم.
أومأ "فادي" بتفهم و قال :
-ماشي .. بس أوعديني ، خلي بالك من نفسك.
سمر بإبتسامة :
-ماتقلقش يا حبيبي .. أنا هبقي كويسة إن شاء الله
الجزء السابع
عزلاء امام سطوة ماله
_ أول يوم عمل ! _
صباح يوم جديد ... تستيقظ "سمر" كالعادة علي صوت زقزقة العصافير و أيضا علي صوت بكاء "ملك" الذي ينذر بإستيقاظها ..
تترك "سمر" فراشها بسرعة تسد أي ثغرة ينفذ منها شعور النعاس و العودة للنوم ، تذهب نحو سرير أختها ، تحملها و تؤرجحها بين ذراعيها قليلا ثم تعد لها وجبة سريعة _ اللبن المجفف خاصتها _
يستيقظ "فادي" في هذه الأثناء ، لتسلمه "سمر" الطفلة ، ثم تتجه هي نحو الحمام
أدت روتينها اليومي و أغتسلت ، ثم عادت إلي غرفتها
فتحت خزانتها تستعرض الثياب المعلقة بها ، كلها قديمة و رثة ، لكن لا يهم ، هي لم تهتم يوما بالمظاهر ، و بما أنها ذاهبة للعمل فهذا الهدف سيكون أهم من أي شيء تتطلع إليه
يجب أن تكد و تعمل بجهد حتي تثبت لـ"عثمان" أنه لم يخطئ حين أختارها لهذه الوظيفة ، يجب أن تثبت إليه أنها تستطيع القيام بهذا العمل الذي ستمارسه لأول مرة
و ليس هكذا فقط ، ينبغي أن تجعله ينبهر بقدراتها أيضا و بالنتائج التي ستحصدها ، لما لا ؟ .. فهي ذكية و تملك عقل نبيه و ستتعلم بسرعة ..
إختارت "سمر" ثوب طويل باللون الأزرق إرتدت عليه حجاب أبيض اللون أبرز سمرة وجهها الناعمة الجذابة و عزز لون عيناها الممزوجتان بالأخضر و العسلي
إنتعلت حذائها البالي في الأخير ، ثم أخذت حقيبتها الصغيرة و خرجت إلي الصالة ، حيث "فادي" هناك يمشي طولا و عرضا بـ"ملك" التي لا تكف عن الصراخ كعادتها ..
توقف "فادي" عن الحركة لحظة ظهور "سمر" ثم قال و هو يشملها من بعيد بنظرة فاحصة :
-إيه ! خلاص ماشية يا سمر ؟
سمر بإبتسامة هادئة :
-أيوه يا فادي .. قبل ماتروح إنت بقي علي كليتك ماتنساش تلم حاجات ملك و تديهم كلهم للحاجة زينب و إن شاء الله مش هتأخر.
-هتروحي نفس الشركة ؟!
-لأ .. ما أنا قلتلك ، هو أسس شركة جديدة لنفسه قرر يشتغل لوحده يعني و لغي حفلة الإفتتاح عشان إللي حصل لإبن عمه ، فالشغل هيبدأ عادي من إنهاردة منغير أي حاجة.
فادي و هو يهز رأسه بتفهم :
-ماشي يا سمر .. ثم أوصاها مؤكدا :
-سمر .. خلي بالك من نفسك !
تنهدت بشئ من الضيق و قالت :
-حاضر .. حاضر يا فادي دي المرة المليون تقولي نفس الكلمة من إمبارح ، و الله هاخد باللي من نفسي ماتقلقش.
حدجها بنظرات مترددة ، لكنها إستأذنته بسرعة قبل أن يفه بكلمة أخري :
-يلا بقي أنا لازم أمشي دلوقتي عشان ماتأخرش مش معقول أتأخر من أول يوم كده .. يلا باي !
و هرولت إلي خارج المنزل تاركة إياه في حالة عدم رضا و عجز عن الرفض في آن ، فهم بحاجة إلي المال قبل كل شيء ...
في قصر آل "بحيري" ... يصحو "عثمان" من نومه إثر رنين جرس التنبيه المنبعث من هاتفهه
مد يده و أخذ الهاتف و أسكت ذلك الدوي المزعج ، ثم فرك عينه و هو يزفر بكسل ..
قام من سريره الوثير علي مضض ، ثم دلف إلي حمامه الفخم
أخذ دوشا ساخنا ليرخي عضلات جسده و يتخلص من رواسب اليوم الفائت ..
فرغ من إستحمامه بعد ثلث ساعة تقريبا ، ثم خرج و هو يلف المنشفة حول وسطه
توجه مبتل الخطي نحو غرفة الثياب الفاخرة الملحقة بغرفته
إنتقي بذلة سوداء اللون عصرية و بدون ربطة عنق من العلامة التجارية (چي كرو ) و أرفق معها ساعة يد مصنوعة من البلاتين الخالص ، ثم إختار حذاء أسود لامع علي جوارب بنفس اللون
إرتدي ملابسه كلها، ثم وقف أمام المرآة الضخمة ، قام بتمشيط خصيلات شعره الكستنائية الطويلة ، و مشط لحيته الكثيفة بعناية أيضا ..
نثر عطره الثقيل الجذاب علي وجهه و حول عنقه ، و أخيرا إنتهي ..
ألقي علي نفسه نظرة مغترة واثقة ، و عدل من هندامه للمرة الأخيرة ، ثم أخذ مفاتيحه و هاتفهه و غادر غرفته ..
إصطدم بـ"هالة" أثناء هبوطه الدرج ، فوقف و قال بإبتسامة إعتذار :
-هالة ! معلش خبطك ، ماخدتش بالي.
هالة بإبتسامة متيمة :
-و لا يهمك يا عثمان .. محصلش حاجة.
عثمان و قد لاحظ طريقتها الناعمة التي يعرفها جيدا :
-هو مافيش حد في البيت و لا إيه ؟؟
-لأ كلهم راحوا من شوية لصالح ، أصل إمبارح صافي أصرت تبات معاه في المستشفي و قالت مش هتروح إلا أما يجي حد يقعد معاه بدالها.
-أه .. طب و إنتي ماروحتيش معاهم ليه ؟
-بابي قالي خليكي دلوقتي عشان أستريح من السفر يعني ، و بعدين هيبقي يبعتلي السواق يوديني علي بليل كده .. ثم قالت بإبتسامة خجل :
-إنت رايح الشغل صح ؟ تحب أحضرلك الفطار طيب ؟؟
عثمان بعذوبة :
-شكرا يا هالة ، إنتي عارفة أنا فطاري فنجان قهوة مافيش غيره و ده هاخده في الشركة.
عبست بضيق قائلة :
-فنجان قهوة بس ؟ إنت لسا بردو متمسك بالعادة دي ؟ و الله هتقع من طولك يا عثمان و أبقي قول هالة قالت.
عثمان ضاحكا بخفة :
-ماتقلقيش يا لولا يا حبيبتي ، إبن عمك جاامد أوي .. و غمز لها بعينه ، فأغرمت أكثر بتفاصيله الساحرة ..
بينما إنحني "عثمان" قليلا و طبع قبلة سطحية بريئة علي شعرها من جهة أذنها ، و قال :
-يلا بقي أنا ماشي ، عايزة حاجة ؟
هالة بأنفاس متلاحقة :
-لا شكرا !
تجاوزها و يلوي ثغره بإبتسامة جانبية ، فيما هي لا زالت علي حالها ، ساكنة بمكانها ، مأخوذة ، مسرورة ، تتنفس بقية ذرات الهواء المعبقة بعطره ...
في المستشفي الخصوصي التي نقل إليها "صالح" مساء أمس ..
داخل هذا الجناح الواسع النظيف و المزود بأحدث الأجهزة الطبية ، يرقد "صالح" فوق ذلك السرير الأبيض
بينما "صفية" غافية علي كرسي بجواره ، ملقية برأسها علي كتفه السليمة ..
فتح "صالح" عيناه بتثاقل ، و أطلق تآوها متألما إنتفضت "صفية" علي إثره مستيقظة ..
-صالح ! .. قالتها "صفية" بتلهف و هي تعتدل في جلستها بسرعة ، و تابعت :
-إنت كويس يا حبيبي ؟ حاسس بإيه ؟ أندهلك الدكتور ؟؟؟
حرك "صالح" رأسه للجهتين و هو يعصر جفناه من الألم ، ثم قال بصعوبة :
-تعبآاان .. مش قآاادر .. جسمي كله قايد نار .. آاااه.
صفية بعينان دامعتان :
-معلش يا صالح .. هتبقي كويس إن شاء الله ، هتقوم بالسلامة يا حبيبي .. ثم أرتمت علي صدره المضمد و هي تجهش بالبكاء و تقول من بين دموعها :
-أنا أسفة .. سامحني أنا السبب ، أنا إللي طلبت منك تنزل يومها ، لو ماكنتش نزلت ماكنش كل ده حصل .. سامحني يا صالح .. سامحني !
-صآا في ! .. قالها بخفوت شديد لعدم مقدرته علي الكلام ، و أكمل بوهن :
-صفـ ية . من فضلك .. خلاص . كفاية . إنتي كده بتتعبيني زيادة.
إبتعدت عنه و هي تمسح دموعها بسرعة ، ثم قالت :
-خلاص .. مش هتعبك ، أنا سكت أهو.
إبتسم بجهد ، و كم أراد أن يرفع يده ليربت علي شعرها ، لكن جسده خانه ، رافض كل أمر منه بالحركة ، فقط الآلم هو المسيطر الآن
حريق مستعر لا نهائي ، يمضي زاحفا بأصابع من لهب علي كافة أنحاء جسده و خاصة عظامه ..
-هو إيه إللي حصل بالظبط ؟ .. سألها بصوت متحشرج
-إنت مش فاكر أي حاجة ؟!
صالح بإستذكار :
-أنا كل إللي فاكره . إني كنت سايق بسرعة .. و فجأة نسيت عنوان المستشفي إللي خدته منك . قلت أتصل بيكي أخده منك تاني و قللت السرعة .. بس .. بس السرعة ماقلتش . زادت .. زادت أوي ، و كنت هخبط في عربية ، فدخلت في الطريق المعاكس .. و فجأة طلعت عربية تانية في وشي .. و مش فاكر أيه إللي حصل بعد كده !
أمسكت بيده و ضغطت برفق و هي تقول :
-حبيبي إنت كويس إطمن .. إن شاء الله مش هطول هنا.
-الدكتور قال إيه ؟
صفية و قد إنتابها التوتر :
-الدكتور ! .. الدكتور قال إنك كويس ، بس لازم تتعالج هنا فترة الأول.
عبس بغرابة ، بينما خشت أن يستفسر أكثر ، فقالت بشئ من الإرتباك :
-بقولك إيه إنت مش جعان ؟ أخليهم يجبولك إيه ؟؟!
صالح برفض :
-لأ مش عايز.
صفية بحزن :
-ليه بس يا صالح ؟ إنت بقالك يومين فاقد الوعي و عايش علي المحاليل .. إيه ماجعتش ؟!!
-لأ .. قالها بكدر و هو يشيح بوجهه عنها ، فعضت علي شفتها بإستياء
لكنها عادت تقول بدلال و هي تمد يدها و تدير وجهه إليها ثانيةً :
-عشان خاطري يا صلَّوحي .. Please .. وحياتي !
صالح و هو يبتسم رغما عنه :
-إنتي عارفة إني بضعف قدام السهوكة بتاعتك دي .. ماهي مش بالساهل ، طول عمرك مطلعة عيني و منشفة ريقي.
ضحكت بغنج ، ثم قالت بمزاح :
-و إنت طول عمرك بارد و رخم و مابتنزليش من زور .. مش عارفة هتجوزك إزاي !!!
-بقي كده ؟ مااشي ، خليكي بقي فاكرة كلامك ده و لما أخرجلك من هنا.
-هتعملي إيه يعني ؟ .. إستوضحت بحدة مصطنعة ، ليرد متقهقرا :
-مش هعمل حاجة يا حبيبتي .. هو أنا مجنون ، ده إنتي تسيبي عليا عنتر فيها.
-أيوه كده إتعدل.
في هذه اللحظة فـُتح باب الغرفة ، ليدخل "رفعت البحيري" و معه كلا من "يحيى" و "فريال" ..
وجدوا أن "صالح" قد أفاق من غيبويته ، فهرع إليه والده و جثي علي ركبتيه بجوار سريره و أخذ يبكي و يعانقه و يقول :
-يا حبيبي .. حمدلله علي سلامتك يا حبيبي ، الحمدلله .. إنت كويس يابني ؟؟؟
أجابه "صالح" بإبتسامة بسيطة تطمئنه :
-أنا كويس يا بابا الحمدلله .. ماتقلقش.
جال "رفعت" بنظره علي إبنه يتأكد بنفسه ، ثم إقترب منه أكثر و راح يقبل كتفيه و يتشممه متمتما بعاطفة أبوية :
-ألف حمدلله علي سلامتك يا صالح .. ألف حمدلله علي سلامتك.
-حمدلله علي السلامة يا صالح .. قالها "يحيى" بإبتسامة ، ليرد "صالح" إبتسامته قائلا :
-الله يسلمك يا عمو.
فريال بإبتسامة رقيقة هي الأخري :
-حمدلله علي سلامتك يا صالح.
-الله يسلمك يا طنط فريال.
-شد حيلك بقي عشان تقوم بالسلامة و ترجع البيت معانا.
إبتسم "صالح" و هو يهز رأسه قائلا :
-إن شاء الله .. ثم تساءل بإهتمام :
-أومال فين عثمان صحيح ؟؟
أجاب يحيى :
-عثمان يا سيدي في شركته الجديدة .. راح يفتتحها ، بس قال إنه هيخلص و هيجي علي هنا علطول.
صالح بتفهم :
-ربنا يعينه !
أمام مؤسسة ( البحيري للتسويق و التجارة ) .. تترجل "سمر" من سيارة الآجرة
و أخيرا وصلت بعد معاناة في الطريق ، حيث الإزدحام سائد و العثور علي أي وسيلة مواصلات صعب ..
توجهت إلي الداخل و هي تري المناظر البديعة ممتدة علي طول بصرها و تشم الروائح الطيبة منتشرة في كل المكان
تلك إمارات الثراء .. قالت في نفسها ، ثم إتجهت نحو الإستقبال ، حيث هناك تجمهر بسيط و فتاة في مقتبل العمر تقف و تتكلم عبر ( المايك) المكبر للصوت :
-من فضلكوا يا أساتذة . الكل يلزم مكانه ، دقايق بالظبط و مستر عثمان البحيري هيكون معانا ، هيقول كلمته و يسمعكم تعليماته و بعدين الكل هايروح علي شغله .. من فضلكوا نلتزم الصمت و ناخد أماكنا بهدوء !
يتبــــع ...
...
اذا أتمت القراءة علق بعشرة ملصقات ليصلك الجزء الجديد
ومتابعه
الجزء الثامن
عزﻻء امام سطوة ماله
_ مدير صارم ! _
طالت مدة الإنتظار ، و مضت عدة دقائق طويلة و "سمر" تقف ككل الموظفين ، في إنتظار طلة المدير البهية ..
و أخير آتي .. لمحته من علي بـُعد ، و هو يأخذ مكان موظفة الإستقبال و يتناول (المايك) ثم يضعه في مستوي فمه و يبدأ ..
عثمان بصوت أجش و هو يرسم علي وجهه ملامح الصرامة المطلقة :
-صباح الخير .. رد الجميع تحيته ، ليتابع بسرعة :
-أهلا بيكوا في مؤسسة البحيري للتسويق و التجارة ، طبعا كلكوا أكيد عارفين إن الشركة دي منفصلة عن بقية مجموعات عيلتي ، بمعني أدق يعني عارفين إنها تخصني أنا لوحدي .. مش هخوض في تفاصيل كتير عشان مانضيعش الوقت و إحنا لسا في أول يوم بس هقول كلمة ، كلمة واحدة و ملهاش تاني ..
أنا ماعنديش هزار في الشغل .. إللي هيشتغل بجد في الشركة دي أهلا و سهلا هيشوف كل خير . أما إللي مش عايز يشتغل مع السلامة و الباب يفوت جمل ، الشركات المنافسة كلها ماشية بنظام قديم . نظام تقليدي و عقيم . ماشية بالبركة يعني . لكن شركتي مستحيل تبقي في المستوي ده ، عشان كده كل موظف هنا مكانه مهدد بالسحب . يعني كل 3 شهور هنصفي موظفين . هنشوف مين إللي كفاءاته عالية هنخليه . أما إللي هنشوفه مش بيضيفلنا حاجة هنقوله مع السلامة ..
اليوم هنا 8 ساعات .. في إستراحة طبعا لكن باقي الوقت شغل يعني شغل ، مش عايز أسمع مشاكل ، مش عايز أشوف تدني في مستوي العمل ، مش عايز كسل في الشغل ، و الأهم من ده كله مش عايز نفر يتأخر عن معاد شغله ، كلكوا تبقوا هنا قبلي ، و طبعا في جزي للي ممكن يتأخر و ممكن توصل للرفد !
صمت "عثمان" قليلا ، يمرر نظره علي وجوه الموظفين التي شحبت تدريجيا إثر كلامه الشديد الحازم ، ثم أكمل بلهجة فاترة :
-زي ما في شدة و حزم في الشغل في كمان ترفيهات و حاجات كتير كويسة ، أنا عمري ما ببخل أبدا علي موظفيني . و أظن معظمكوا عارف كده .. أشوف بس التقدم بعيني ، ساعتها المرتبات هتزيد و العلاوات و الحوافز هتبقي الضِعف.
دوي التصفيق الحار فجأة بعد أن أنهي جملته ، ليهز رأسه بإبتسامة رزينة يشكرهم ، ثم عاد و قال :
-يلا بقي كل واحد علي شغله من فضلكوا !
تفرق الحشد من أمامه شيئا فشيء ، لتقع عيناه عليها و يلتقطها من بين الجميع ..
كانت مرتبكة ، متوترة .. واقفة لا تعرف ماذا تفعل أو أين تذهب ، فنادي هو عليها دون أن يستخدم (المايك) :
-أنسة سمر !
نظرت إليه فورا ، بينما أشار لها بيده لتأتي له
فعلت ذلك في الحال و مضت إليه مهرولة ..
-صباح الخير يا أنسة سمر .. قالها بإبتسامته الجذابة و قد تخلي عن جديته السابقة تماما ، لترد بصوت مبحوح :
-صباح النور يا عثمان بيه !
-جاهزة للشغل ؟
سمر و هي تهز رأسها بشيء من التوتر :
-جاهزة حضرتك.
-طيب إتفضلي .. قال و هو يمد لها يده بحقيبته الخاصة
أخذتها منه في إضطراب ، لكنها تساءلت :
-أعمل بيها حضرتك ؟
عثمان و قد عاد لجديته ثانيةً :
-إنتي مش بقيتي سكرتيرتي ؟
أومأت بالإيجاب ، ليرد :
-يبقي كل حاجة تخصني من إنهاردة تحت مسؤوليتك .. ثم قال بلهجة آمرة :
-إتفضلي هاتي الشنطة و تعالي ورايا.
تبعته "سمر" و هي تكاد تتعثر من وسع خطواته ، إلي أن إستقلا المصعد
أخيرا إلتقطت أنفاسها .. أُغلق الباب علي كليهما و ضغط "عثمان" زر الطابق الثالث
لم يحاول أن ينظر لها إطلاقا خلال تلك الثوان القصيرة ، بل أظهر برودا بالغا في تصرفاته و بقي متحفظا في شخصيته الواثقة و المغرورة في آن ..
وصل المصعد إلي الطابق المنشود ، ليخطي "عثمان" إلي الخارج أولا و يتجه إلي غرفة مكتبه مباشرةً دون أن يلتفت خلفه
لحقته "سمر" و هي تلهث قليلا ، بينما ينزع هو سترته و يستدير و يعطيها إليها قائلا :
-خدي الچاكيتة دي علقيها هناك .. و أشار إلي المشجب المستقيم علي بعد مترين من جهة يمين المكتب
أخذتها منه بإضطراب أشد و فعلت ما قاله ثم عادت إليه مرة أخري ..
كان قد جلس مسترخيا وراء مكتبه ، أخذ يحدق فيها لوقت من الزمن ، نظراته فارغة غير مقروؤة ، فعبست "سمر" متساءلة :
-في حاجة حضرتك ؟
لم يجيبها في الحال ، صمت لبرهة ، ثم قال :
-و لا حاجة يا سمر .. ببصلك بس ، تعرفي إن شكلك حلو أوي !
توردت خجلا إثر جملته الأخيرة ، و أطرقت رأسها بسرعة و هي تعض علي شفتها السفلي بقوة ..
-إنتي إتكسفتي مني و لا إيه ؟ .. قالها بتساؤل ، و أردف :
-الجمال مابيكسفش صاحبه بالعكس . لازم تتباهي بيه !
سمر بتلعثم و هي لا زالت مخفضة رأسها :
-حـ حضرتك .. أنا . مش متعودة حد . يقولي كده !
عثمان ببراءة متكلفة :
-إتضايقتي يعني ؟ .. عموما أنا ماقصدتش أضايقك ، كل الحكاية إن هي دي طريقتي في التعبير ، طول عمري متعود أقول رأيي بصراحة .. ثم أضاف بحزن مصطنع و هو يشيح بوجهه للجهة الأخري :
-أنا آسف لو ضايقتك.
سمر و هي ترفع رأسها بسرعة :
-لا أبدا .. أنا مش مضايقة ، بس . زي ما قلت لحضرتك .. مش متعودة حد يقولي كلام زي ده.
-مش متعودة حد يقولك إنك حلوة ؟
أومأت له ، فضحك بخفة و قال :
-إزاي إللي حواليكي مش مقدرين جمالك ؟ أكيد ناس عندهم مشاكل ! .. ثم أكمل و هو ينظر بفضول إلي ذلك الوشاح الذي يحجب عنه رؤية شعرها :
-بس هتبقي أحلي أكيد لو شيلتي الإشارب ده !
سمر بحدة و هي تضع يدها علي رأسها :
-إيه ؟ لأ طبعا . مستحيل في يوم أقلع الحجاب . مستحيل !
عثمان بإبتسامة مرتبكة :
-إيه إيه مالك بس ؟ إهدي أنا ماقولتلكيش إقلعيه . إنتي حرة طبعا . ده كان مجرد رأي مش أكتر.
عكفت حاجبيها بشيء من الضيق ، بينما قال "عثمان" بجدية و هو يهم بمباشرة أعماله :
-طيب .. إتفضلي إنتي علي مكتبك دلوقتي و يا ريت تبدأي شغلك فورا . إتأخرنا في الإفتتاح و بالتالي شغلنا إتأخر . شوفي شغلك بقي و أي رسايل مبعوتة من برا إطبعيلي منها نسخة و هاتيهالي علطول.
سمر بلهجة رسمية :
-حاضر يافندم.
و خرجت مسرعة ، لتتوقف حركة "عثمان" لحظة أغلاق الباب ، ثم يطلق زفرة حارة و هو يتمتم لنفسه :
-إنتي هتتعبيني و لا إيه ؟؟؟ و لو أنا حاطتك في دماغي خلاص !
في المستشفي .. أمام غرفة "صالح
وقف الطبيب المسؤول عن حالته ، يتحدث إلي أفراد العائلة و يناقشهم بخصوص خطة العلاج ..
الطبيب بنبرة هادئة :
-يا جماعة آجلا أم عاجلا لازم هيعرف . بس مش لازم نتأخر إحنا في العلاج بالذات العلاج الطبيعي . في أجزاء في جسمه لازم نتعامل معاها بسرعة . ماينفعش الكسور إللي ضهره تلحم علي بعضها كده خطر !
رفعت بصوت واهن :
-أنا أكيد مش معارض يا دكتور .. أنا بس خايف عليه من الصدمة.
الطبيب بإبتسامة :
-ماتخافش حضرتك أنا بنفسي هقعد معاه و هشرحله وضعه و كل حاجة بخصوص حالته و هو أكيد هيفهم و هيساعدني كمان.
و هنا تدخلت "صفية" :
-طيب يا دكتور بعد أذنك .. بلاش نكلمه في حاجة إنهاردة ، هو لسا فايق . بلاش عشان مايتصدمش زي ما قال عمي . ينفع بكره مثلا ؟!
زم الطبيب شفتيه بتفكير ، ثم قال :
-ماشي يا أنسة ، حل معقول بردو .. خلاص . يبقي بكره الصبح إن شاء الله هاجيله و أشرحله كل حاجة عشان نبدأ في العلاج بأسرع وقت.
و تركهم بعد أن إتفقوا علي هذا الحل ..
بينما مال "رفعت" علي الحائط و هو يردد محزونا :
-بدري عليك يا صالح .. و الله بدري عليك العجز يابني !
يحيى صائحا بإنزعاج :
-في إيه يا رفعت ؟ هتعدد زي الستات و لا إيه ؟!
رفعت و هو يحدجه بعدائية :
-إنت ماتتكلمش معايا خالص .. ليك عين تتكلم و إنت السبب في إللي حصل لأبني !
يحيى بحدة :
-إنت إتجننت صح ؟ أنا السبب أزاي يعني ؟ شكل زعلك علي إبنك لسا مأثر عليك.
-إنت السبب ! .. هتف "رفعت" بإنفعال ، و تابع :
-إنت و إبنك السبب في إللي حصل لأبني . إنتوا الإتنين السبب في رميته دي . بس و رحمة أبوك و أمك ياخويا ، لو إبني ماقمش و وقف علي رجليه من تاني هـ آا ..
-هتعمل إيه ؟ .. قاطعه "يحيى" بغضب و قد إتقدت عيناه بلهب مستعر :
-هتعمل إيه يا رفعت ؟ قول .. و شرع في الإقتراب منه ، لتقف "فريال" بوجهه و تقبض علي ذراعه قائلة :
-يحيى ! .. من فضلك خلاص .. ثم إلتفتت إلي "رفعت" و قالت :
-و إنت يا رفعت .. إهدا ، صالح هيبقي كويس ماتقلقش.
و أضافت "صفية" بسأم ممزوج بالدهشة :
-يعني بجد مش وقتكوا خالص .. صالح جوا تعبان و إنتوا واقفين هنا بتتخانقوا ؟ بجد مش مصدقاكوا !!
و تآففت بضيق و هي تتجه إلي غرفة "صالح"
بينما وقفا الأخوين يحدقان ببعضهما في غضبٍ و تحد ...
في مكان أخر .. تحديدا في ( كاڤيتريا ) الجامعة
يجلس "فادي" مع رفاقه علي طاولة في الوسط ، كان شارد منذ جلوسه معهم ، إلي أن أنتشله صوت أحدهم :
-إييييه ياعم فاادي ؟ فينك من الصبح !!
إنتبه "فادي" لصديقه ، و أدار وجهه قائلا :
-إيه يا كيمو .. أنا معاكوا أهو يا معلم ، كنتوا بتقولوا إيه ؟؟؟
صديق ثانٍ :
-معانا إيه يابني ! إنت من ساعة ما جيت و إنت سرحان ، مالك يا فادي إنت كويس ؟
رد عليه الأول :
-ياعم ما هو قدامك زي الفل أهو .. تلاقي بس في حب جديد و لا حاجة !
فادي بضيق :
-حب إيه ياخويا إنت كمان . أنا فاضي أهرش في راسي ؟!
-أومال مالك طيب ؟؟!
فادي و هو يفرك عينه بأرق :
-مافيش بس حاسس إني مرهق شوية .. يمكن من السهر و المذاكرة .. ثم قام فجأة ، ليسألونه رفاقه :
-رايح فين ؟؟؟
فادي و هو يخرج هاتفهه من جيب بنطاله الخلفي :
-هعمل مكالمة بس.
صديقه المشاكس :
-أيوه ياعم . و عملنا فيها برئ.
فادي بتهكم :
-أنا هتصل أطمن علي أختي يا ذكي زمانك.
-أختك ؟ ماااشي .. إبقي سلملي عليها بقي.
فادي بحدة :
-إنت هتستعبط ياض ؟!
ضحك الأخير بإرتباك و قال :
-ياعم بهزر إيه !
رماه "فادي" بنظرة غاضبة ، ثم إستدار مبتعدا ليجري مكالمته ...
عند "صالح" و "صفية" ..
-بردو مش عايزة تقوليلي في إيه ؟ .. قالها بتساؤل و إلحاح ، لترد "صفية" بشيء من الضيق :
-قولتلك مافيش حاجة يا صالح . لو في حاجة أكيد هقولك هخبي عليك ليه يعني ؟!
صالح و هو يرمقها بشك :
-أنا كنت سامع بابا عمو يحيى زي ما يكونوا بيتخانقوا .. قوليلي يا صافي حصل إيه ؟ عثمان عمل حاجة تاني ؟؟!
تنهدت "صفية" تنهيدة طويلة ، ثم أمسكت بيده و ضغطت بحنان قائلة :
-صالح . حبيبي .. إطمن ، مافيش حاجة حصلت . كله تمام صدقني.
صالح متسائلا بحيرة :
-طيب كانوا بيزعقوا ليه ؟؟؟
-ما إنت عارفهم ساعات بيشدوا مع بعض لأسباب تافهة . الإتنين عصبيين ، مش أول مرة يتعصبوا علي بعض يعني.
رمقها بعدم إقتناع و كاد يتكلم مجددا ، فسبقته قائلة بإبتسامة رقيقة :
-قولتلك إطمن .. مافيش حاجة تقلق ، صدقني
في مؤسسة ( البحيري للتسويق و التجارة ) .. إستلمت "سمر" مكتبها مرفق بمكتب "عثمان" مباشرةً و لكن من الخارج
كانت منخرطة في إستكشاف تفاصيل عملها الجديد و التعرف علي كل صغيرة و كبيرة ، و إنهمكت أيضا في إعداد الرسائل التي طلبها "عثمان" و طباعة بعض الأخر المرسل منها ..
سمعت رنين هاتفهها ، فتناولته و نظرت لأسم المتصل
إبتسمت بخفة ، ثم أجابت :
-ألو يا حبيبي !
رد "فادي" :
-إيه يا سمر . مش قلتلك إبقي إتصلي طمنيني عليكي ؟!
-كنت هخلص الشغل إللي في إيدي ده و كنت هكلمك و الله.
-إيه الشغل لحق يرف فوق دماغك ؟!!
ضحكت "سمر" بمرح ، و قالت :
-الله أكبر في عينك ياخويا هتحسدني !
فادي بحدة :
-وطي صوت ضحكتك دي . فاكرة نفسك في البيت و لا إيه ؟!
-حاضر ياسيدي مش هضحك خالص أهو . ممكن تقفل دلوقتي بقي عشان ألحق أخلص الحاجات إللي في إيدي ؟ مديري عايزهم بسرعة.
فادي بضيق :
-طيب هترجعي إمتي ؟
-علي الساعة 4 أو 5 بالكتير.
-ماشي .. خلي بالك من نفسك.
سمر بحب :
-ماشي يا حبيبي .. يلا باي !
و أغلقت معه
و ما كادت تعود لمتابعة عملها ، إلا آتاها هذا الصوت الرجولي الجذاب :
-لو سمحتي يا أنسة !
متابعه ليصلك باقى الاجزاء
اذا أتمت القراءة علق بعشرة ملصقات ليصلك الجزء الجديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق