الفصل السادس
عاد شادي بعد يومين من سفره الذي لا يعلم أحد عن تفاصيله شئ، سأل عن حياه وسلوكها أثناء غيابه، كانت تسمع صوته من غرفتها كلما سمعته اقشعر بدنها، تتذكر كل ما فعله بها تغضب وتبكي حسرة على ما وصلت إليه.
دخل عليها الغرفة دون أن يطرق الباب كالعادة، اعتادت هي على ذلك فلم تعد تبالي فقد أصبحت ترتدي حجابها باستمرار حتى أثناء نومها.
وضع لفافتين على السرير أمامها قائلاً بلهجة أمره: إنهارده الساعة تسعة تكوني جاهزة عشان هتيجي معانا .. إنهارده أول يوم ليكي ولو فكرتي تعملي حاجه كدا ولا كدا ما تلوميش إلا نفسك على اللي هيحصلك
صفع الباب بشدة خلفه زيادة في الخوف الذي يحاول زرعه بداخلها، أحرقت الدموع عينيها وهي تفتح اللفافه الأولى لتجد بها فستان قصير بدون أكمام واللفافة الأخرى تحتوي على حذاء عالي الكعبين يناسب الفستان.
دفعتهم بعيداً إلى أخر الغرفة ولكن إلى متى ستستطيع دفعهم ..
***
وقفت في الاستراحة برفقة سمر داخل فناء المدرسة تطمئن على أحوالها، لقد انتظمت كثيراً في مواعيدها وأصبحت الإبتسامة لا تفارق وجهها على الأقل بينما تكون برفقة حنان.
لقد وجدت الطفلة الحنان الذي تتمناه فائضاً لدى معلمتها الحبيبة، عوضتها عن وفاة والدتها وقسوة زوجة والدها.
انطلقت سمر تلعب مع صديقاتها بعد أن توطدت علاقتها مع أغلبهن فصارت إجتماعية جدا.
-صباح الخير
إلتفتت إلى الصوت القادم من خلفها متعجبة: خليل ؟ .. صباح النور
نظر إلى سمر وهي تلعب وتضحك: لسه حنينه زي ما إنتي
تنهدت بقوة: عايز إيه يا خليل؟، إيه اللي جابك؟
اتخذ موقف الهجوم عندما وجدها لا تبالي أو كأنها تختنق من كلماته فأراد المحافظة على ماء وجهه: جاي عشان أقدم لبنتي هدى في المدرسة هنا
كزت على أضراسها غيظاً فليس من الممكن أن يكون بلا مشاعر إلى هذه الدرجة: وإشمعنه المدرسة دي بالذات ؟
هز كتفيها كأن الأمر ليس مهماً: عشان دي أحسن مدرسة ف المنطقة
سألته ساخرة: والمدام وافقت على الموضوع دا بسهولة كدا ؟
تذكر رد فعل زوجته عندما علمت باسم المدرسة التي يريد تقديم ابنتهما للإلتحاق بها، لقد صرخت بوجهه وكادت أن تدق عنقه على تفكيره فهي تعتقد أنه يفعل ذلك ليكون هناك رابط ولو بسيط بينه وبين حنان، نفى ذلك بشدة أمامها ولكن قلبه كان مؤكداً عليه، لكن الحوار أنتهى بأنه الأعلم بما في مصلحة هدى.
تجاهل سؤاله بسؤال أخر: أخبارك إيه وأخبار ست الكل إيه ؟
أومأت: الحمدلله
اعتذرت منه منصرفة: عن إذنك عندي شغل
تركها تغادر فليس لديه ما يتحدث به ليستبقيها برفقته لمدة أطول، تنهد مغادراً المدرسة وعيونها المتألمة تشيعه من نافذة غرفة المعلمات.
***
ارتدت فستانها الأسود الذي ناسب مزاجها فهي تشعر حقاً أنها ليست ذاهبة إلى حفلة بل إلى عزاء لكن هذا العزاء لن يكون إلا .. فيها.
حررت شعرها كما أمرها وإلا عقابها سيكون عسيراً، لا تخلو جملة أو أمر يوجهه إليها من تهديد ووعيد، يعلم أنها لن تطيعه بإرادتها.
أتت نيفين تضع لها لمسات المكياچ في صمت، تتأكد أن كل شيء على خير ما يرام لتوصل ذلك إلى شادي.
نهضت خائفة ركبتيها تكادان تتخبطان سوياً من شدة فزعها، نظر إليها نظرة رضى عن مظهرها الأنيق الذي سيجعل عنقه تشرئب أمام الجمع في الحفل، هو يعلم دون مبالغة أنها أجملهن وأكثرهن جاذبية، فهي رغم ملامحها المصرية العادية إلا أن عيونها تمتلك سحراً خاصاً، لمعاناً سحرياً ولكنه مطفئ الآن، واسى نفسه بأنها سرعان ما ستعتاد الأجواء ويعود لمعان عيونها لسابق عهده.
كانت تشد على أضراسها وتكبح جماح دموعها، قلبها يتمزق إرباً، لم تتحمل نظراته إليها وهي ترتدي فستانها الواصل إلى ركبتيها، تمنت أن تنشق الأرض وتبتلعها، إذا كانت نظراته هكذا فما بال من سيحضرون الحفل؟
بعد أن عبر عن رضاه عن مظهرهن جميعاً طلب منهن أن يتبعوه، سارت مترددة تحاول التفكير في حل لما هي فيه وما هي مقدمة عليه، قبل أن يصعدوا إلى السيارة هتفت قائلة: أنا عطشانة
شادي بملل: لما نوصل هتلاقي حاجات كتير تشربيها
- لا، أصلي لما بأعطش بأتعب وجسمي بيترعش
نظر لها بشك: غريبة دي
فتون تنجدها: خليها تشرب يا شادي، كان زمانها شربت وجت كمان
-طب روحي بس بسرعة
أضاف محذراً: وأوعي تفكري ف حاجه كدا ولا كدا أحسنلك
تجاهلت الرد وعادت إلى الداخل، اتجهت إلى غرفة نيفين وفتحت أحد الأدارج تناولت منه شريط دواء، ارتعشت يديها فوضعته مكانه وهمت بالمغادرة لكنها عادت مسرعة وتناولت حبتين منه ووضعت باقي الشريط مكانه وهرولت مسرعة قبل أن تعود في قرارها.
***
انتهوا من العشاء سوياً كما لم يفعلا منذ فترة، كانت نجلاء سعيدة بهذا التغيير رغم علمها إنه ليوم واحد بناء على إصرارها المتواصل.
حملت الأطباق إلى المطبخ وبدأت في إعداد القهوة التي يعشقها فادي بعد وجبة دسمة كالتي تناولها منذ برهة.
سبقها إلى غرفة المعيشة يبحث عن فيلم مسلي يشاهداه معاً، وضعت الفشار على النار لتجهز طبقاً ضخماً للتسالي أمام الفيلم، قررت إنهاء غسيل الأطباق في انتظار نضج القهوة والفشار.
كانت تغسل الأطباق سعيدة بيومها هذا، إنه كما تتمناه دائماً عودة الزوج للعشاء برفقة زوجته مساءً ثم يتابعان فيلماً رومانسياً أمام شاشة التلفاز وهي متقوقعة بين أحضانه تنعم بدفئه وحنانه، لم تشعر إلا بصرخة فادي وهو يغلق صنبور المياه فزعاً.
استدارت إليه متفاجأة: في إيه؟
-هو إيه اللي في إيه ؟؟ إنتي مش واخده بالك إن المايه كأنها مغلية وممكن تسلخ إيدك!
نظرت إلى يدها لتجدها شديدة الأحمرار من أثر المياه، تركها تنظر ليدها ببلاهة واتجه يطفئ النار بعد أن فارت القهوة وحُرق الفشار.
تمتم متأففاً: أنا مش عارف إيه اللي حصلك وخلاكي مش دريانه بأي حاجه كدا، لا بإيديك اللي كانت هتتحرق ولا بالقهوة اللي فارت ولا بالفشار اللي اتحرق
همهمت منصرفة: هأروح أحط مرهم على إيدي
هرولت مسرعة هي نفسها لا تدري ماذا حدث، لماذا لا تشعر بأي ألم رغم أن يدها أوشكت على الإحتراق.
***
وقفت تضرب قدميها في الأرضية بعصبية شديدة، إنها ليست حفلة عادية إنما حفلة للعربدة والمجون، تذكرت الوصايا العشر التي أوصاها شادي بها، الإبتسامة الدائمة، الكلمة اللطيفة، الرقة الشديدة، عدم العصبية، الدلال الزائد .. إلخ.
شعرت أنها سلعة معروضة أمام الحشد لينتقيها من يستطيع تأجيرها لفترة وجيزة لكن بأعلى سعر، احتقرت نفسها والمكان والناس حتى الأموال، الأموال التي تجعل البشر سلعة سهلة الشراء يتقاذفها الأثرياء كأنهم لعبة ملك أيديهم.
رجل بدين أشيب الشعر يبدو أنه يفوق عمر والدها عقداً كاملاً، مال ذلك الرجل على شادي يهمس له بشئ ما ويبدو أنه أعجبه لأن ابتسامة كريهة ظهرت على شفتيه، لمحت بصر شادي يتوجه صوبها، ارتفعت دقات قلبها أكثر من الفزع.
اقترب شادي يسحبها من ذراعها عائداً بها إلى ذلك الرجل متمتامً من بين ضروسه حتى لا يظهر أنه يحدثها خلف ابتسامته المتجمدة فوق شفتيه: هتروحي معاه وهتعملي اللي يقولك عليه من غير ولا كلمة اعتراض .. هيبقى فيه واحد تبعي واقف على الباب لما تخلصي هيرجعك البيت .. بس لازم الزبون يتبسط وإلا ليلتك هتبقى أسود من قرن الخروب يا حياه
قرص على ذراعها بشدة لكنها كتمت صرختها، أصبحت مشاعرها دائماً مكبوتة لا تستطيع تحريرها، هذه ليست عادتها لكن يبدو أنها أصبحت كذلك.
تناول الرجل ذراعها من شادي مصطحباً إياها إلى منزله كما أخبرها، ظل يثرثر طوال الطريق معرفاً نفسه ولكن أذنيها لم تلتقط أي حرف مما تفوه به.
قادهم السائق إلى منزل الرجل ولم يكن السائق سوى أحد أتباع شادي الذي أرسله في صحبتها ليعيدها مرة أخرى بعد قضاء ليلتها برفقة الرجل.
دلفت إلى الغرفة ترطب شفتيها بلسانها، جف حلقها من التوتر وصارت تبلع ريقها بصعوبة احتارت ماذا تفعل وكيف تتصرف، لا تطيق أن يلمسها رجل مرة أخرى رغماً عن إرادتها.
لمحته بطرف عينها ينزع سترته وربطة عنقه ثم يصب كأساً من الخمور، لم تعرف كيف فعلت ذلك كأنها مسيرة، نزعت الكأس من يده ثم قالت بدلال مصطنع: أدخل خد دش
حاول الإقتراب منها لكنها ابتعدت محاولة إخفاء ذعرها الداخلي: لا لا خد دش الأول
قال بنفاذ صبر: ولزومه إيه بس دلوقتي .. هأبقى أخده بعدين بس تعالي دلوقتي .. قربي
احتمت خلف كرسي: لا، أنت كلك عرق وأنا بأقرف، استحمى الأول
-شكلك هتتعبيني، أنا هأقول لشادي على فكرة
اقشعر بدنها لذكر اسمه فقررت الخضوع قليلاً: خلاص أغسل وشك بس وتعالى
انصاع لها عندما رأى التصميم في عيونها، فور دخوله إلى الحمام أسرعت تُخرج الحبوب التي أخفتها في جيب صغير في أحد أجناب الفستان.
وضعته في الكأس وبدأت تحركه بسرعة حتى يذوب الدواء بالكامل، خرج من الحمام قائلاً بإنتعاش: كان معاكي حق، الواحد كان محتاج يفوق
دفعت إليه بالكأس راسمة إبتسامة وهمية على شفتيها: طب أشرب دا يلا بقى
شرب الكأس على دفعة واحدة وعينيه لا تتزحزح عنها، بعد انتهاؤه من الشرب اقترب منها مسرعاً ولكنها تفادته متجهة إلى الحمام: مش هاتأخر
دخلت مغلقة الباب خلفها، تأكدت من تناوله للكأس كاملاً لا ينقصها إلا إنتظار مفعول الدواء في الظهور.
ظلت حبيسة حتى مر حوالي عشر دقائق، وضعت أذنها على الباب تتلمس أي صوت يتصدر من الغرفة، عندما لم تسمع أي ضجيج فتحت الباب بهدوء لتجده ملقى على السرير.
اقتربت منه بهدوء متسللة، سمعت شخيره .. إنه يغط في نوم عميق، لقد تبعهم السائق حتى دخلوا الغرفة وأخبر الرجل أنه سيقف على الباب في الإنتظار كما هو معتاد. إذا فالخروج من الباب دون جدوى، اقتربت من الشرفة الموجودة في الحجرة، كانت الفيلا مكونة من طابقين لكن الإرتفاع من الطابق الثاني للأرض ليس بهذا العلو.
ترددت ولكنها حسمت أمرها أخيراً ليس لديها ما تخسر فقد خسرت الكثير بالفعل، وجدت عموداً إلى جوار الشرفة تمسكت بها زاحفة إلى الأسفل.
لم تصدق أنها وصلت أخيراً إلى الأرض، سارت متمهلة حتى غادرت البوابة الرئيسية للفيلا، ثم لم تشعر بنفسها إلا أنها تركض وتركض بلا توقف حتى تقطعت أنفاسها وأوشك قلبها على منع ضخ الدماء إلى باقي أجزاء جسدها.
***
دلفت إلى غرفة جدتها، وجدتها تقرأ في كتاب الله بصوت هامس، ابتسمت وناولتها دواءها: يلا يا ست الكل، اشربي دواكي عشان تخفي وتبقي مية فل وعشرة
صدقت مغلقة المصحف وهي ترسم بسمة على شفتيها: يا بنتي أنا عندي حاجة وسبعين سنة مش سبع سنين
- ولو يا ست الكل، دا ما يمنعش إني أدلعك، الدلع من حق الصغير والكبير
تناولت الجدة دواءها ثم ربتت على مكان عند قدميها، جلست حنان منصاعة متنهدة؛ هذه علامة جدتها بأنها تعرف أن هناك ما يزعجها وتحاول إخفاؤه خلف بسمتها ومزاحها.
أقرت: خليل عايز يقدم لبنته في المدرسة اللي أنا شغاله فيها
فغرت فاهها دهشة: مش معقول، إيه البجاحه دي !
تنهدت: مش عارفه يا تيته، أنا تعبت بجد
أجهشت في البكاء، ضمتها جدتها إلى صدرها الحاني تواسيها وتدعمها صامتة، تحدثت حنان بما يجيش بصدرها: هو ليه مش حاسس بالحرقه اللي ف قلبي، ليه بيفكرني دايماً بغلطة أنا عمري ما نستها وبأندم عليها لحد دلوقتي، أيوه قصرت ف حق بنتي بس مش يجيب سكينة تلمه ويفضل كل شوية يشق قلبي بيها ... أنا تعبت بجد والله أنا إنسانه من لحم ودم .. بتجيلي أوقات بأحس فيها إنه الموت أرحملي من الحياه دي بس بعدين بأرجع استغفر ربنا.
ربتت على شعرها: دا اختبار من ربنا ولازم نصبر، ادعي وربنا هيستجيب إن شاء الله بس ف الوقت المناسب ليكي ولبنتك، ما تخليش عندك شك ف كدا أبداً، ربنا هو الأعلم بالأنفع والأصلح لينا من نفسنا حتى
هدأت حنان وقل نحيبها حتى غطت في نوم عميق، ظلت تدعو لها جدتها بالخير وراحة البال، تلك الدعوة التي تتكرر كثيراً دون أن نعرف أهميتها حتى نفقدها.
***
لا تعلم كم مضى عليها تركض جلَّ ما تعلمه أن قلبها يكاد يتوقف من كثرة دقاته وأنفاسها توشك أن تذهب بلا رجعة دون القدرة على التقاطها.
توقفت أخيراً أسفل عمود إنارة في الطريق، نظرت حولها هناك قلة من الناس تسير، بعض المحلات ماتزال ساهرة في إنتظار ساهراً أخر يرغب بشراء شئ ما.
إن المحروسة تختلف تماماً عن بلدتها، مهما كان الوقت متأخراً أو مبكراً توجد أقدام تروح وأقدام أخرى تجيء، تأملت كل مكان تسقط عينيها فوقه ولكنها لم تجد مكان تلجئ إليه، خائفة أنها إذا لجأت إلى أحدهم يستغلها، فقد استغلها من رسم عليها الحب بكلماته فما بال من لا يعرفونها بالأساس؟
احتارت ماذا تفعل، لا تعرف أين هي ولا إلى أين تذهب، هل اكتشفوا غيابها ؟، يبحثون عنها الآن، اقتربوا من مكانها ؟؟.. تساؤلات تساؤلات بلا انتهاء.
ارتفعت الإقامة من مسجد قريب من محل وقوفها، اتجهت إليه حيث وجدت قلة قليلة تدلف إلى المسجد لتأدية صلاة الفجر، دق قلبها بسعادة عندما وجدت باب مصلى السيدات مفتوحاً.
تقدمت منه مسرعة كأنها تخشى إغلاقه في وجهها إن لم تسرع، دخلت إليه ووجدت أدوات التنظيف مركونة جانب الباب من الداخل، فهمت أنه مفتوح في تلك الساعة ليتم تنظيفه قبل صلاة الجمعة.
نظرت إلى نفسها، لقد اتسخ جسدها ليس من الغبار والطريق فحسب بل من المكان الذي جاءت منه، نزعت حذائها مكسور الكعب حيث كسرته لتستطيع الركض بسرعة وخفة أكبر لأطول مسافة ممكنه، لمحت مجموعة من العباءت والتنورات والأخمره موضوعة على رف جانبي.
تناولت إسدالاً واتجهت به إلى الحمام، تحممت وهي تفرك جسدها بكفيها كأنها تريد سلخ جلدها عن عظامها، انتهت وإرتدت الإسدال وألقت ما نزعته عنها في سلة القمامة، وقفت في إتجاه القبلة تقيم صلاتها حامدة الله على إنقاذها شاكرة فضله عليها.
جاء الإمام ليغلق مصلى السيدات لكنه وجدها واقفة تقوم بتنظيف المسجد بهمة ولم تشعر بقدومه، تبسم ثم انصرف دون أن يزعجها عائداً إلى مصلى الرجال ليتلو بعض آياته حتى الشروق.
***
جمعت أغراضها في عدة حقائب، صرخت تخبر جدتها: أنا نازله يا تيته .. مش عايزه حاجه؟
جاءت جدتها على مهل تدعو لها بالتوفيق وحسن المأب .. انطلقت هي في طريقها إلى المسجد فاليوم هو الجمعة؛ حيث تحمل العديد من الكتب الدينية والمصاحف اللائي جمعتهن من زميلاتها في المدرسة، فمن يفيض لديه أي شيء تقوم بتجمعيه وإرساله إلى مكانه المناسب فالكتب الدراسية إلى الجمعيات الخيرية كذلك الملابس وكتب الثقافة العامة بينما الكتب الدينية بعضها للجمعيات الخيرية ولكن الأغلب تذهب إلى أحد المساجد واليوم الدور على أكبر مسجد في منطقتها.
ذهبت مبكرة عن موعد أذان الظهر بأكثر من ساعة كاملة لترتب الكتب في المكتبة التي تحتل حائطاً بأكمله في مسجد النساء وتعطي بعضاً منها إلى إمام المسجد ليرتبهم في مسجد الرجال من ثم تشعل البخور ليملئ المسجد برائحة فواحة تعطيه انتعاشاً فوق إنتعاش تواجد المرء به.
صعدت إلى مصلى السيدات لكنها وقفت متسمرة مكانها، من تلك التي تتوسد كفيها وتضم ركبتيها إلى صدرها ؟؟
وضعت الحقائب متناولة إحداها وعادت تنزل الدرجات من جديد، كان الإمام على وشك الدلوف إلى مصلى الرجال عندما نادته، توقف باسماً وبدأ الإقتراب منها يسألها عن حالها وحال جدتها، طمأنته ثم سألته بالمثل عن حال زوجته وأولاده.
عادت تسأله متعجبة: هي مين اللي نايمه في المسجد فوق دي ؟
هز كتفيه حيرة قائلاً: مش عارف يا بنتي، أنا جيت أقفل المسجد بعد صلاة الفجر لكن لاقيتها بتمسح مصلى السيدات فسيبتها ورجعت اقرأ قرآن لحد ما تخلص بعد الشروق طلعت تاني لاقيتها بتقرأ في كتاب الله، ما قدرتش أقولها أخرجي عشان هأقفل، دا بيت الله وما أقدرش أقفله ف وش أي حد ممكن يكون محتاج .. واللي لاحظته عليها إنها محتاجاه دلوقتي جداً
أومأت متفهمة وسلمته نصيب مصلى الرجل من الكتب والمصاحف ثم عادت تصعد إلى مصلى السيدات وتبدأ في رص الكتب داخل المكتبة بنظام وترتيب معين.
***
اصطحب أحمد زوجته بعد أن تطيب بأفضل العطور واغتسل كما أوصى الرسول –عليه الصلاة والسلام- وانطلق برفقة سمية إلى المسجد، هذه عادتهما أن يذهبا كل جمعة سوياً إلى المسجد للصلاة وفي طريق العودة يشتريان مستلزمات البيت وبعض الحلوى والفاكهة لأهل الدار.
استيقظ حمزه ولم يجد غيره هو ومي مي في المنزل تساءل في نفسه عن مكانهما حتى تذكر عادة والديه، استحم وتطيب ثم تناول سواكه بعد أن ألبس مي مي إسدالها فلم يكن بيده حيلة أخرى فقلبه لن يطاوعه بتركها وحيدة في المنزل، كانت البراءة تشع من عينيها متناغمة مع ما ترتديه ووجهتهما.
كان قلقاً أن تشعر بالحرج داخل مسجد قد لا يكون به سوى الرجال والصبيان الصغار فقط، لكن لحسن الحظ كانت توجد فتاتان صغيرتان برفقة والدهما انسجمت معهما مي مي بشدة، كذلك عندما علم عدد من المصلين أنها لا تستطيع التحدث أشفقوا على حالها وبدأوا في مداعبتها.
اتسعت إبتسامته عندما رأى إبتسامتها، لقد نسي تماماً أمر مدرستها ولم يخبر والدته بشأنها، دعى أن يتذكر في أقرب وقت ممكن.
***
فجأة سمعت صرخات تصدر من خلفها، استدارت لتجد الفتاة نائمة تهزي في سباتها، تركت ما بيدها وإتجهت إليها لا تدري ماذا تفعل ثم وجدت أنه يجب إيقاظها لا مفر.
هزتها من كتفيها مطمئنة: اصحي اصحي، ما تخافيش إنتي هنا ف بيت ربنا مش هيحصلك حاجه ما تقلقيش
انتفضت جالسة وهي تنظر حولها بذعر لم تره حنان من قبل على وجه بشر، ابتسمت لتبث بداخلها الإحساس بالأمان: مافيش حاجه، دا كان مجرد كابوس
ناولتها زجاجة مياه من حقيبتها لتروي ظمأها، تجرعت الزجاجة بأكملها من ثم بدأت في الإسترخاء رويداً رويداً، عند ذلك الحد نهضت حنان وتركتها عائدة إلى مهمتها في ترتيب الكتب مرة أخرى.
راقبتها حياه لدقيقتين ثم نهضت تتناول الكتب من الحقيبة في صمت وترصهم بنفس ترتيب حنان بالضبط، لما رأتها حنان تفعل ذلك ابتسمت وانشغلت بما بين يديها.
مع ارتفاع أذان الظهر في الأجواء كانتا قد انهيتا مهمتهما، أشارت لها حنان بأن تذهب لتتوضأ.
ارتفعت الخطبة تصل إلى أذان الجالسين في المسجد، كانت حياه منزوية في أحد الأركان وحيدة أما حنان فكانت تداعب الأطفال الذين حضروا مع أمهاتهم وتوزع عليهم بعض الحلوى التي لا تخلو حقيبتها منها.
كانت تقيم سداً بين جفنيها لتمنع شلال الدموع من التدفق لكن عندما عبر الإمام عن موضوع الخطبة وقبل أن يبدأ في التحدث عنه كان السد قد إنهار وتحررت المياه دفاقة من حبسه وانهمرت بلا توقف أو حساب.
إن الخطبة كانت عن "التوبة" .. شعرت أنها رسالة إليها من الله –عز وجل- يساندها على ما أقدمت عليه ويؤكد لها حسن تصرفها.
بعد انتهاء الخطبة وإقامة الصلاة .. اتجهت حنان إليها تعاونها على النهوض لتقف في صف الصلاة.
همت حنان بالمغادرة ولكنها تذكرت تلك الفتاة التي لا تعلم عنها شيئاً فعادت إليها تجلس إلى جوارها متسائلة: إنتي مش ناويه تروحي ؟؟
أجابتها بحزن: ماعنديش مكان أروح له
علت الدهشة وجهها: إزاي يعني ؟؟
كادت حياه تروي لها قصتها عندما تذكرت كلمات فتون بأن لا تثق بأحد غير نفسها، لاحظت حنان ترددها فابتسمت: طب إيه رأيك تيجي تتغدي معايا أنا وجدتي ؟، بعد كدا اعملي اللي يريحك
لم تجبها فأكملت: الشيخ حسين إمام المسجد ماروحش بيته من الفجر عشان خاطر إنتي موجودة ومش متعود يخرج حد من بيت ربنا، والراجل عنده بيت وعيال
زفرت بحدة ثم نهضت معها مشيرة بموافقتها، رأت الحذاء مكسور الكعبين وكذلك عدم نزعها للإسدال الخاص بالمسجد لكنها لم تعقب على شيء فقط اكتفت بمرافقتها لها.
الفصل السابع
تسير ولكن دون أن تلمس قدميها الأرض بسبب قفزها المستمر من السعادة تمسك بإحدى يديها بلونة منتفخة على شكل وجه ميكي ماوس والأخر تتعلق بكف حمزه والذي أجبرته على حمل الحلوى التي منحها إياها من بالمسجد.
شعر بسعادة كبيرة لسعادتها بل إنه ضحك من كل قلبه كما لم يفعل منذ زمن، إن عالم الأطفال ملئ بالحب والضحك كما السعادة لا مكان للحزن أو الخيانة كأنهم في عالم يتنزه عن النواقص .. عالم تحميه الملائكة من قذارة البشر.
وصل إلى المنزل وسلم مي مي إلى والديه متجهاً إلى غرفته، استغرقه التفكير في كل ما تعرض له من غدر وغيره من نواقص، عاد الحنق والغضب إليه مرة أخرى.
هب من مكانه وإرتدى ملابسه الرياضية وخرج إلى حيث عائلته تتابع حلقة ما على التلفاز.
رأته والدتها فتساءلت: رايح فين يا حمزه؟
- هأروح الچيم شوية
-هو إحنا بنشوفك غير الجمعة وياريت كل جمعة دي كل فترة والتانية بس
-ما أنا أصلاً كنت قاعد ف أوضتي هتفرق حاجه أوضتي عن الچيم ؟
قالت بحنق: ما أنت اللي حابس نفسك لوحدك ومش عايز تقعد معانا
أمسك والده بيد سمية: خلاص يا سمية سيبيه يعمل اللي يريحه وأدينا قاعدين مع بعض لحد ما يرجع
أشار برأسه إلى حمزه حتى يذهب، ابتسم له ممتناً لإنقاذه من بين براثن لوم والدته.
بعد أن أغلق باب الشقة خلفه زفرت بضيق: أنا مش عارفه هتفضل تقف ضدي وف صف الواد دا لحد أمتى يا أحمد !
-مش ضدك ولا حاجه، بس هو شكله مضايق والچيم لما يلعبله فيه كام لعبه على كام حركة هيخليه يهدا شوية
تنهدت: وياترى إيه اللي ضايقه ؟
إلتفت إلى التفاز من جديد متمتماً: لو حابب يتكلم هيجي يقول من غير ضغط يا سمية!
نظرت له بحنق وهي تعض شفتيها من الغيظ، هكذا هو زوجها لا يعطيها رداً شافياً.
***
نسيت ترددها في الدخول إلى منزل امرأة لم تعرف عنها سوى اسمها الذي أطلعتها عليه في طريقهما ليست حتى متأكدة من صدقها.
انسجمت مع مزاح الحفيدة مع جدتها وجو الطيبة الذي يكسو المكان، بعد الغداء انصرفت الجدة لترتاح في غرفتها قليلاً معللة ذلك بأن الدواء الذي تتناوله يجعل جسدها يصل إلى أعلى حالات استرخاءه.
لا تعرف ما سبب فتح الحديث ولكن النتيجة كانت رواية حنان لفقدانها ابنتها وبعد ذلك طلاقها وزواجه من أخرى حتى وصلت إلى إطلاعها عن رغبته في الحاق ابنته بالمدرسة التي تعمل بها.
أشفقت على حالها مدركة أنها ليست الوحيدة التي تعاني في هذه الدنيا، لعبت بها الحياة أخذة سعادتها في لحظة وبدلتها شقاء لكن الدنيا لا تكتفي بشخص دون سواه.
لم تجد بُداً أمام صراحة مضيفتها سوى أن تقابلها بصراحة وصدق مماثلين، روت لها حكايتها منذ تعرفت عليه وكيف هربت من بين يديه.
-لسه فيه ناس بالشر دا ؟
-أنا كنت فاكره الدنيا لسه بخير طلعت أنا اللي بعافيه هههههه
تبسمت: طب وناوية تعملي إيه ؟
-مش عارفه
-لما فكرتي في الهروب ما فكرتيش ترجعي لأهلك ؟
ملأت الحسرة عينيها: ارجعلهم إزاي وأنا كدا بعد اللي عمله فيا ؟؟ أنا اللي فضلته عليهم ولازم أتحمل نتيجة أعمالي
-بمعنى؟
- هأدور على شغل وأشوفلي شقة أعيش فيها وأسس حياتي وقتها لما أقف على رجليا أبقى أفكر أرجعلهم بس أكيد مش وأنا مكسورة
-وإنتي فاكره اللي بتقوليه دا بالساهل ؟
استندت للخلف وهي تزفر: مش عارفه بقى
خطرت على بالها فكرة: وإيه رأيك تعيشي معايا هنا ؟؟، أديكي شايفه مافيش غيري أنا وجدتي
- بس أنا كدا هأتقل عليكوا .. كمان أنتوا
- تتقلي إيه بس، دا إنتي أدتي حس للمكان والله وأهو ألاقي حد سنه قريب من سني أعرف أخد وأدي معاه ف الكلام .. بعدين الناس بتبان من أول مرة ياما عاشرنا ناس وباعونا
- يعني مش هأزعجكوا ؟
-بس يا شيخة اسكتي، أنا بأقول إيه وهي تقول إيه .. المهم المدرسة اللي شغاله فيها طالبة مدرسين، إيه رأيك تقدمي فيها؟
-طب وهما يقبلوا بيا ؟؟
-إنتي خريجة إيه؟
-ألسن إيطالي
-طب حلو جداً، مش الإنجليزي بتاعك كويس؟
-أه
-خلاص تمام أوي كدا، هما عايزين مدرسة إنجليزي، أنا هأكلم المديرة وأشوفها بس ما أعتقدش هيرفضوا أقل حاجه هتقبلك مؤقت لحد ما تلاقي حد متخصص أكتر
تبسمت حياه فلقد شعرت برضا الله عليها منذ عاونها على الهروب وصولاً إلى لقاءها بحنان التي حنت عليها كأختها زهرة التي تفتقدها بشدة.
***
دخل إلى النادي الرياضي يتلفت حوله بحثاً عن صديقه، وقعت عينيه عليه أخيراً فاقترب منه حانقاً، كان يتصبب عرقاً يكاد يُغرق النادي بأكمله، وقف يتطلع إليه صامتاً حتى ينتهى.
ألقى الأثقال التي يرفعها بعد أن استبد به التعب وارتمى أرضاً بجوارها يلتقط أنفاسه، لوى مُسعد شفتيه: إيه اللي جرا ؟
من بين أنفاسه أجاب: مفيش، طاقة زيادة وحبيت أخرجها
-طب قوم خلينا نروح نقعد ف كافيتريا ولا حاجه
-أنت مش ناوي تلعب
-لا أنا ماعنديش طاقة أصلاً عشان أخرجها
ضحك حمزه: ماشي خليك معصعص كدا مافكش حتت عضل واحدة
عقد ذراعيه معدلاً نظارته فوق أنفه: سيبنالك أنت العضلات يا عم المجانص
-ههههههه طب استنى هاستحمى وأغير هدومي وأجي معاك
انطلقا إلى أحد المطاعم ليتغديا سوياً ويتحدثا قليلاً، دار الحوار بين العمل والمواضيع العامة وحاول مُسعد عدم الإحتكاك بأي شيء خاص فهو رغم مزاحه الشبه دائم إلا أنه يفرق بين وقت الدعابة ووقت الصمت، ظل حمزه شاكراً له إشغاله بعيداً عن التفكير الذي يفتك برأسه فتكاً كلما شرد لحظات قصيرة.
***
بعد يومين بدأت حياه العمل مع حنان بنفس المدرسة، زاد احترامها لحنان أكثر عندما علمت بقصة الفتاة التي تذهبان لاصطحابها معهم يومياً، لقد تعلمت بسبب حنان أن الطيبة ليست عيباً عندما تصدر من أهل الطيبة ولكنها تتحول ريبة عندما تصدر من دونهم.
تأقلمت مع الأطفال بسرعة ونالت حبهم واحترامهم، كانت دائماً ما تحب الأطفال وتتمنى أن يرزقها الله بالكثير والكثير منهم لتشبع غريزة الأمومة الطاغية لديها كما هو الحال مع حنان، حنان تلك الأخت من دم مختلف تذكرها بزهرة وببعض الأمور المنسية داخل أعماقها، تفهمت رغبة حنان في حصول التلاميذ على علم لائق يفيدهم في حياتهم الخارجية قبل الإمتحان فهذا ما سيتبقى لهم حقاً.
ذاع صيتها في المدرسة وبدأت الضحكة تعود إلى وجهها، هذه الضحكة التي أختفت منذ غادرت منزل أهلها وجاءت إلى القاهرة التي قهرتها حقاً هي اسم على مسمى بعكسها، البسمة التي لا تفارق شفتي حنان في أي لحظة أو موقف أصابت حياه بالعدوى ولكنها عدوى مرحب بها.
اعتقد الجميع أن هناك صلة قرب بينهما، لما تملكانه من بسمة تُنسي من يراها حزنه وهمه كذلك ملابسهما المتشابهة حيث الإحتشام والأناقة معاً فلم يعرف أحد أنها ترتدي ملابس حنان حتى تحصل على أول مرتب لها وتقدر على شراء ملابسها الخاصة، رغم ذلك لم تحاول أي واحدة منهما تصحيح ذلك الإعتقاد فهن في النهاية أخوات في الله وليس رابط الدم هو ما سيربطهما فعلياً.
كانت تنام في غرفة حنان تشعر بها عندما تستيقظ في الثلث الأخير من الليل تبتهل وتدعو أن يحمي الله طفلتها ويردها إليها سالمة في أقرب وقت، توضأت وانضمت إليها في صلاتها تشاركها الدعاء في عودة ابنتها التي تشتاق هي نفسها لرؤيتها من حديث الأم عنها ثم تدعو لنفسها بصلاح الأمور وهدايتها إلى طريق الصواب.
لقد كانت ترتدي الملابس الفضفاضة في بلدتها لكن لإنها العادات على عكس سلمى صديقتها التي كانت ترتديه إقتناعاً، بعدما رأت حنان وحياتها وملابسها تيقنت أن هذا حقاً الأفضل وأصبحت ترتديه عن قناعة لذلك بأول راتب لها اشترت ثلاثة أطقم تبدل بينهم في أولى خطواتها للإستقلال.
***
تعجبت حنان من استدعاء المديرة لها في هذا الوقت من النهار على عجلة دون إخبارها عن السبب، دعت ربها أن لا تكون هناك مشكلة.
طرقت الباب في إنتظار الأذن بالدخول حتى أتاها فدلفت ملقية السلام: السلام عليكم
ردت رافعة رأسها بإنتباه: وعليكم السلام .. اتفضلي اقعدي يا حنان
جلست حنان مطيعة وعينيها تسأل مالم ينطقه لسانها، اعتدلت المديرة سناء: هأدخل ف الموضوع على طول عشان زي ما إنتي عارفه ما بأحبش اللف والدوران
أومأت بتفهم فعادت تكمل الحديث: واحدة صحبتي كانت مديرة مدرسة بردو بس قدمت على معاش مبكر بعد ما جوزها اتحال ع المعاش عشان تقعد معاه تونسه، طلبت مني أشوفلها مدرسة أثق فيها عشان تدرس لبنتها
حنان متعجبة: طب ما تقدملها في المدرسة
ردت بأسف: البنت عندها حالة نفسية منعتها من الكلام فلما بتروح المدرسة مش بتقدر تتفاعل مع زملاءها وبتبقى محل للسخرية منهم لعدم وجود التوعية المناسبة زي ما إنتي عارفه، كمان مجرد إنها تشوف اللي حواليها ف حالة تواصل ماعدا هي هيسببلها أزمة أكتر .. ومن ساعة ما عرفوا إنها بتضايق ومش بتتكلم وهما سحبوا أوراقها من المدرسة وقرروا يجيبولها مُدرسة تهتم بيها ف البيت
حنان بعدم فهم: وأنا المطلوب مني أشوف لحضرتك مُدرسة مناسبة يعني ؟
هزت سناء رأسها نفياً: لا أنا عايزاكي إنتي اللي تبقي المُدرسة دي، أنا عارفه قد إيه إنتي حنينه وهتقدري تتوصلي معاها بسرعة، خصوصاً إنه البنت مش إجتماعية أوي ومش أي حد بتقدر تاخد عليه بسهولة، أعتقد بتحس باللي بيحبها ويحن عليها بجد وبين اللي بيمثل أو يشفق على حالها.
أومأت متفهمة لكنها علقت: بس أنا مش هأقدر، حضرتك عارفه إنه بعد المدرسة بأروح أشوف جدتي وأقعد معاها كمان عندي نشاطات تانية مش هأقدر أسيبها
-إممممم طب والحل ؟؟
بعد تفكير: أنا هأشوفلك واحدة وأتمنى إنها توافق
-إن شاء الله توافق، وأنا واثقة فيها مادام من طرفك
***
وقفت أمام الشقة تتأكد من الرقم المدون على الورقة التي تحملها بين أصابعها وتطابقها مع الرقم الموجود على باب الشقة.
لقد أقنعتها حنان بقبول هذه الوظيفة لتقضي يومها فيما يفيد وذكرتها كذلك بثواب مساعدة طفلة صغيرة، كما سيساعدها الراتب الذي ستتقاضاه في تأسيس الحياة المستقلة التي ترغب بالحصول عليها.
دقت الجرس ولم تمر لحظات حتى وقفت أمامها سيدة رغم كبر سنها إلا أنه يبدو عليها الإهتمام بنفسها، حجابها وقور لكنه في نفس الوقت أنيق، ابتسمت عندما رأتها: إنتي ميس حياه مش كدا ؟
أومأت مؤكدة صدق حدسها، سمحت لها بالدخول تتحدث إليها عن طباع مي مي وأن اسمها الحقيقي هو ميّ لكن لا تحبه ولا تجيب عن ما يلقبها به.
أرشدت بالنهاية إلى غرفة مي مي وتركتها بعد إلحاحها فهي تريد التعرف عليها بطريقتها الخاصة حتى تنزع من قلبها أي أثر للرهبة بينهما.
كان الباب شبه مفتوح رأت من خلاله طفلة ذات شعر بني حريري ينسدل بحرية مغطياً نصف ظهرها، ترتدي بنطالاً من الجينز وتي شيرت أزرق اللون، تلعب بألعابها صامتة.
اقتربت منها بهدوء: على فكرة إنتي بتعمليها صح .. ما شاء الله عليكي
ألقت عليها نظرة عابرة ثم عادت إلى ما كانت تفعله غير مبالية، جلست على الوسادة المجاورة لها وأضافت بجدية: بس إنتي ممكن تعمليها بطريقة تانية أسهل وأسرع
نظرت إليها الطفلة بترقب فاستغلت الفرصة وأمسكت باللعبة تريها الطريقة الأخرى لحلها، أعجبت مي مي بذكاءها وانقضى الوقت والإنسجام هو المسيطر.
أغلقت الأم الباب مبتسمة فقد اطمأنت أن صديقتها قد اختارت بالفعل الشخص المناسب، دخلت إلى غرفة المعيشة حيث يقرأ زوجها كتاباً كعادته.
سألها بعدما جلست: ها .. اطمنتي؟
تنهدت: الحمدلله .. شكلهم متفاهمين جداً مع بعض
-طب كويس .. ما تنسيش تبقي تتصلي بسناء تشكريها
-لا ما تقلقش بعد ما حياه تمشي من عند مي مي هأبقى أكلمها، الست عملت فينا جميل
-ما تنسيش بردو إنكوا درستوا سوا وكمان أول مدرسة اتعينتوا فيها كنتوا مع بعض ولولا الظروف اللي فرقتكوا كنتوا فضلتوا سوا ... وإنتي بقيتي مديرة مدرسة والسنة اللي بعدها هي مديرة مدرسة تانية
-أه ههههههه سبحان الله
انتهى الوقت المخصص لدروس مي مي، اكتفت حياه بالتعرف واللعب معها في المرة الأولى فقط حتى تعتاد عليها.
***
ذهبت حياه يوم السبت بعد مرور شهر ونصف على إعطاءها الدروس وزيارتها يومياً ماعدا يوم الجمعة فهو يوم العطلة.
تفاجأت لأن المكان أصبح مهمل والمنزل مقلوباً رأساً على عقب، نظرت إلى مي مي التي فتحت لها الباب: هو إيه اللي حصل ؟
ترقرقت الدموع بين جفنيها وقبل أن تشير لها بما حدث فقد تعلمت حياه لغة الإشارة خصيصاً لتستطيع التواصل معها بسهولة أكثر وتصبح أقرب إليها، ظهرت نجلاء تنظر لها متسائلة وقدمت نفسها: أنا نجلاء
أومأت حياه: أهلاً وسهلاً .. حضرتك بنت مدام سمية مش كدا ؟
-بالظبط، إنتي المُدرسة بتاعت مي مي ؟
-أيوه، أنا حياه
دعتها للجلوس: ماما أول إمبارح بعد ما مشيتي بالليل ماما رجلها اتكسرت لما اتزحلقت على السيراميك ونايمه في السرير دلوقتي
ظهر الحزن جلياً على وجهها ولاحظت حبها لوالدتها، قدم الأب مرحباً بها: أهلاً يا بنتي، أعذرينا على حالة البيت بس اتلهينا ف سمية وماحدش فيه دماغ للترويق
ابتسمت متفهمة: ولا يهمك المهم سلامتها
-الله يسلمك
-ممكن أشوفها ؟
-طبعاً طبعاً
رافقها إلى غرفة سمية وتركهما بمفردهما.
اطمئنت على صحتها لكنها تفاجأت من طلبها: حياه، ممكن أطلب منك طلب بس أتمنى ما تكسفنيش
أسرعت حياه: طبعاً يا مدام سمية، لو أقدر أكيد مش هاتأخر
-اعتقد إنك شوفتي شكل البيت بره وإنتي داخله
هزت رأسها فتابعت: أنا متوقعة حالته، كل دا من يومين بس ما أخدتش بالي من البيت وفوق دا كله هأفضل في الجبس 21 يوم متخيلة حجم الكارثة اللي هأبقى فيها ؟ .. وما ينفعش أجرب خدامين في الوقت دا، الله أعلم ممكن يستغلوا الظرف دا ويسرقوا حاجه أو يعملوا فينا إيه وإحنا نايمين .. عشان كدا أنا بأطلب منك تيجي تقعدي معانا هنا تاخدي بالك من مي مي والبيت لحد ما أفك الجبس وبعد كدا اللي يريحك هيحصل
تفاجأت حياه من عرض السيدة التي أكملت: أوعي تفتكري إنه دا تقليل من قيمتك، أبداً والله أنا كان نفسي أطلب من نجلاء بنتي كدا بس هي مش قريبة من مي مي زيك كدا ولا ليها ف شغل البيت أخرها طبقين تغسلهم، كمان حياتها مع جوزها مش ناقصة لخبطه .. ومافيش واحدة أقدر اسيبلها بيتي وبنتي وأعيشها معايا زيك .. شوفي اعتبريه طلب إنساني وبردو هأدفعلك اللي تطلبيه
رفعت رأسها بشموخ وقالت بحدة حاولت تخفيفها لكن عرق الصعيد الذي يسري في جسدها يأبى الإهانة التي سمعها: أنا لو قبلت يا مدام سمية بكدا فهيبقى عشان أساعدكوا وقت حاجتكوا ليا بس مش عشان فلوس ولا حاجه تانية
تنحنحت السيدة بحرج: مش قصدي حاجه والله يا حياه أنا بـ...
أوقفتها عن تقديم أي عذر: خلاص اللي حصل حصل، أنا هأجي كل يوم أظبط أمور البيت بس هأروح بعد كدا .. مش هأقدر أبات
ثم أردفت بكبرياء: ومش عايزه فلوس .. أنا بأحس مي مي أختي الصغيرة أو بنتي كمان
ابتسمت سمية ابتسامة صدقة هي أيضاً اعتبرت حياه كابنة لها لم تنجبها، أحبتها وشعرت بأن الحياة جارت عليها دون أن تروي لها قصتها، رغبت بمساعدتها دون أن تعرف حتىمشكلتها.
***
ثار وطاح بكل من حوله، أصبح كالأسد المسعور يريد قتل من يأتي تحت براثنه فقط رغبة في تفجير غضبه المكبوت، هكذا صار حاله منذ علم بهروب حياه.
توعد لها وأطلق رجاله في جميع الإتجاهات بحثاً عنها متيقناً عدم عودتها إلى أهلها فهو يعرف كبرياءها .. ذلك الكبرياء اللعين الذي سيقف في طريقة عودتها مكسورة الخاطر مطأطأة الرأس .. ليس ذلك النوع من البشر الذي يقبل أن يعيش في هوان، رغم حبها لعائلتها ستختار العيشة وحيدة مرفوعة الرأس على العيش تحت جناحهم دون ماء وجه.
لقد تلقى التقريع واللوم من رئيسه الذي علم بهروبها كذلك، موجهاً إليه تهمة الإهمال والتسيب، كيف يثق بفتاة هو على علم بأنها ستنتهز أول فرصة في الهروب خصوصاً أنها أول مرة تخرج في عمل، لكن ما لم يعرفه رئيسه والذي احتفظ به لنفسه أنه حتى لو مر عليها ألف ليلة تعمل وجاءتها فرصة للهرب لن تتغاضى عنها وتدعها تمر دون استغلال؛ هذا لمعرفته بها.
تمتمت جميلة حانقة: هو مافيش غيرها يعني على وش الأرض يا شادي ولا إيه ؟؟ ما تسيبها نجيب عشرة أحسن منها
أسند يداً جوار رأسها على ظهر المقعد ورفع سبابة الأخرى في وجهها، كز على أضراسه كزاً: كله إلا حياه! حياه دي بالذات لازم ألاقيها
فتون متعجبة إصراره عليها: وإشمعنه يعني ؟؟
اعتدل شارداً: عشان مافيش واحدة تقدر تستغفل شادي، فاهمة ولا لا ؟؟
ضحكت نيفين ساخرة: ولا عشان البيج بوص هزأك عشانها ؟
أمسك فكها في كفه: تعرفي تخرسي خالص؟؟
دفعها بعيداً عنه لتسقط على أقرب مقعد وقد ملأ الحقد عينيها، سألته جميلة: صحيح أنت مش ناوي تقولنا هو مين البيج بوص ؟
-هيفرق معاكي يعني ؟؟
-عادي، فضول
تنهد: طب اتهدي بقى، لأنه أنا نفسي ما أعرفش شكله
انتبهت حواس الجميع خصوصاً نيفين، تساءلت فتون: إزاي؟ كل دا وما تعرفش شكله؟
-لا ، لما بيقابلني مش بيخليني أشوف وشه .. الأوضة نورها كله بيبقى عليا لوحدي وساعات بيكلمني ف التليفون بس
تمتمت جميلة بتعجب: غريبة
استغرق هو في تفكيره، يحاول الوصول إلى طريقة يعرف بها مكانها، يضع نفسه مكانها لعله يعلم إلى أين يمكنها الذهاب والإختفاء هكذا، مهما طال الزمن سيأتي اليوم الذي يصل فيه إليها ويجعلها تدفع ثمن هروبها من تحت يديه.
***
انتهت من العادة التي عودت جميع أهل المنزل عليها، والتي كانت تفعلها في منزل عائلتها، وهي وضع الزهور بكل غرفة وكل ركن، كذلك إشعال أعواد البخور يوم الجمعة معطياً رائحة أخاذه في الجو تبعث الحيوية والنشاط.
دق جرس الباب فذهبت تفتحه، تفاجأت بذلك الشاب صاحب البنيان القوي، يُرجع خصلات شعره للخلف بنظارته الشمسية ذات الماركة الشهيرة، لم تعجبها نظرته المدققة مما جعلها تتمتم بعصبية: خير ؟؟ حضرتك عايز حاجه ؟؟
احتلت السخرية ملامحه: أول مرة أشوف خدامة بجحه بالشكل دا
أزاحها جانباً بذراعه غير مبالي بالدهشة التي ملأت كل ملامح وجهها، أغلقت الباب بعنف وتبعته تريد أن تلقي فوق رأسه صخرة لتحطم بها سخريته وتهكمه.
أمرها بغرور: روحي اعمليلي كباية عصير برتقان وهتيهالي على أوضة ماما
رحل دون إضافة كلمة أخرى بينما وقفت هي تضم ثلاثة أصابعها الأولى وتهز كتفيها، من يرها يظنها ترقص ولكن عندما يلقي نظرة على ملامح وجهها المنكمشة يعلم كم تشعر بالضيق: ماما .. جاتك مو .. بقى شحط زيك بيقول ماما !، أما أنت تقول ماما أومال أنا أقول إيه ..!
أفاقت عندما رأت مي مي تقف أمامها ولا تستطيع تمالك نفسها من الضحك على مظهرها، نظرت لها بحنق: بتضحكي على إيه ؟؟
أشارت إليها دون أن تتوقف عن الضحك، وضعت يدها على فم الصغيرة: هش اسكتي خالص بدل ما أطلع اللي قالوه أخوكي عليكي أديني بأحذرك أهو
بعد أن تمالكت الطفلة نفسها من الضحك صحبتها حياه معها إلى المطبخ لتعد العصير، تركتها تلعب في غرفتها بينما دلفت إلى حجرة سمية حاملة الصينية.
دخلت تعض شفتيها حتى تمنع لسانها من الإنفلات، تناول العصير منها دون كلمة شكر واحدة بل الأدهى أنه أمرها أن تعد له الغداء لأنه يشعر بجوع شديد.
فهمت سمية نظرت الغضب المشتعلة في عيني حياه فهتفت تلوم ابنها بعد أن غادرت: مش كدا يا حمزه، مالك بتعاملها كدا ليه ؟؟
تناول رشفة من الكوب قائلاً بلا مبالاة: وهي دي أشكال خدامين يا ماما بردو ؟؟
سألته باستنكار: خدامين إيه يا حمزه؟! .. دي حياه مُدرسة مي مي !
لم يتهنى برشفة العصير فقد رشها بالهواء من هول الصدمة، قالت والدتها باشمئزاز: إيه القرف دا !، أنت مش كبرت على الحركات دي
اعتذر من والدتها وهم بالمغادرة، استوقفته محذرة: ما تنساش تعتذرلها يا حمزه.. بلاش الطريقة دي مع حياه بالذات .. البنت كتر خيرها يعني بتساعدني وأنت مشغول في شغلك وأختك بتجيلي مرة ولا إتنين في الأسبوع زيارة صد رد كدا
لوى شفتيه، من هي ليعتذر منها بالأساس، إنها واحدة من جنس حواء، الجنس الذي يتفنن في الإيذاء، مصاصي الدماء يتلذذون بدم الضحايا أما النساء فيتلذذون باستنزاف مشاعر الرجال ثم يلقونهم ليشبعوا رغبة أخرى أهمها الأموال.
شرب من العصير متلذذاً بطعمه، مال برأسه جانباً: هي أي نعم شكل لسانها متبري منها بس عليها عصير أول مرة أشرب عصير حلو بالشكل دا .. هاهاها بس بعينها تسمع الكلام دا
***
رغم الحزن الطاغي في المنزل لكن تناسى الجميع هذا الحزن وبدأوا بإعداد وليمة ضخمة للضيوف القادمين.
أمسكت المعلقة من يد زهرة لائمه: معقول يا زهرة لحد دلوقتي ما جهزتيش؟؟
- أخلص بس الفصوليا وبعدين أطلع
-بلا فصوليا بلا بسلة، اطلعي اجهزي وأنا هأشوف اللي ناقص.. يا بنتي العريس دا جايلك إنتي مش جايلي أنا
زفرت بحدة: أنا لو عليا مش عايزه جواز خالص
-ليه كدا بس يا زهرة؟
-يعني مش شايفه اللي إحنا فيه؟ .. أتجوز إزاي وأختي مش جنبي ؟؟
أتاهم صوت من على باب المطبخ يهدر بقوة: انسي إن ليكي أخت، إحنا أربع أخوات بس!، ما تفكريش فيها أحسنلك.
ربتت عائشة على كتفها متنهدة: يلا اطلعي إنتي دلوقتي
انصرفت زهرة صامتة، بينما تابعت عائشة حديثها وهي توجهه إلى زوجها: براحه يا محمود مش كدا، زهرة كانت معتبرة حياه بنتها مش مجرد أخت .. كأنك بتقول لأم انسي بنتك بالظبط
أشاح بيده منصرفاً: ما تجبيش اسمها تاني على لسانك فاهمة ؟؟
تنهدت عائشة بحيرة، كل من بهذه العائلة يمتاز بعناد موروث منذ سابع جد فكيف لها أن تتغير تلك الصفة بين ليلة وضحاها .. ليس بيدها إلا الدعاء.
اجتمعت عائلة العريس مع عائلة زهرة، جلسة للرجال فقط يتحدثون بهدوء وانسجام حتى فُتح موضوع حياه.
تحدث والد العريس: مافيش أخبار عن حياه؟
أجابه فاروق بوجه جامد كالصخر: إحنا ماعندناش بنت بالاسم دا
شقيق العريس الأكبر ملمحاً بلكنة صعيدية: ليكوا حَچ، بس الخوف إنها تكون صفة ف العيلة
محمود وقد تملكه الغيظ: جصدك إيه يعني؟
عم العريس موضحاً: اللي وصلك بالظبط يا محمود، مش يمكن أختها زييها، دا مش بعيد تكون ألعن منيها .. مين عارف ؟؟
نهض فاروق: ومادام فيه أفكار زي دي ف دماغكوا إيه اللي چابكوا إنهاردِه ؟
محمود مؤيداً والده: والله أختي ألف مين يتمناها وإحنا ما ضربنكوش على إيديكوا عشان تيچوا تطلبوها
انتفض العريس من مجلسه: وأنتوا تطولوا تناسبوا عيله زيينا ؟؟
محمود بفخر: وأحسن منيكوا كمان !
كانت عائلة فاروق تتحدث في أغلب الوقت باللهجة القاهريه وذلك نتيجة تربيتهم عليها من قبل فاروق وزوجته –رحمها الله- لكن وقت الحاجه يتحدثون باللكنة الصعيدية حتى لا يظن الأخرون أنهم عجينة لينه.
والد العريس ساخراً: أوعاك تكون فاكر أنه في حد هيفكر يتچوز أختك يا محمود .. تبجى بتحلم يا وَلدي
محمود: ومالها أختي يا حاچ؟ .. دي ست البنات .. والبلد كِلاتها عارفه إكده
-أيوه لكن بعد اللي حُصُل من أختك الصغيرة كِله انجلب
فاروق بحزم: دا عنديكوم أنتوا وبس، لكن فيه ناس كَتار مش بياخدوا حد بذنب حد
نهض عم العريس وأشار للبقية بالمغادرة: يبجى خليك مستنيه بجى لما ياجي
غادر العريس مع رجال عائلته ولحق بهم النساء فقد كن يجلسن برفقة زهرة وعائشة بالحجرة المجاورة.
نظرت عائشة إلى زهرة هامسة: يظهر إنها مكتوبالك يا زوزا، مش هتتخطبي أهو من غير ما تكون حياه هنا .. تحسي إنها عامله سحر طول ما هي مش هنا مش هنفرح هههه
ابتسمت زهرة ابتسامة باهتة، لقد اشتاقت لشقيقتها كثيراً ولكن إلى متى سيدوم الإشتياق ويتحمله القلب قبل أن يرتوي؟
الفصل الثامن
اختفت خلف في ستارة بركن من أركان غرفة مي مي مخصصة لمسرح العرائس ولاعبتها من خلفها مقلدة الأصوات بطريقة رائعة وفي الأغلب مضحكة إلى درجة البكاء.
كانت مي مي تجلس ضاحكة وقد أوشكت على السقوط على ظهرها من كثرة الضحك، وكان هو على وشك المغادرة عندما استوقفته ضحكاتها التي لأول مرة يسمع لها صوتاً، راقبها من الباب المفتوح على مصرعيه وقد عقد ذراعيه مستنداً إلى إطار الباب.
- وبعدين بقى يا لوزة ! .. إنتي هتتعبيني معاكي ليه ؟؟
جاء الدور على الدمية الفتاة: إمشي يا فلفل بدل ما افتح دماغك بالأوله دي !
المهرج: أولة إيه يا بت إنتي .. وبعدين هو حد قالك إنه دماغي عطشانه ؟؟
الفتاة: أنت فاكر موضوع لما تفتكرني خدامه عندكوا هأعديه بالساهل دا يبقى بعدك !
لم يستطع لجم نفسه أكثر من ذلك وسحب شكل المهرج من يدها وارتداه هو وبدأ يتقمص دوره: ويا ريت ما تنسيش يا لوزة أني خليتك تعمليلي عصير وبعدها غدا .. اتفقنا ؟؟
كانت تشعر بالحرج عندما علمت بسماعه لكلاماتها الأخيرة، لكن بعد جملته تلك عاد الحنق يملأها وردت قائلة بينما تنظر داخل عينيه بقوة: مطرح ما يسري يهري
أمسك معدته مصدوماً وقال بفزع مصطنع: بعد الشر
لم تستطع تمالك ضحكاتها فغرقت في عاصفة من الضحك لم يسحبها منها إلا صوته الحاني عندما قال: تصدقي ضحكتك حلوه أوي
توقفت بهتة ونظرت إليه وعينيها تبعث شراراً فأضاف: بس عصيرك وحش أوي .. إخيه
نزع الدمية من كفه وغادر الغرفة فجأة كما دخلها مخفياً ابتسامة ماكرة شقت شفتيه، نظرت إلى الطفلة فوجدتها تنظر لها بعدم فهم هي الأخرى، أيعقل أنها لا تفهم تصرفاته مثلها ؟
***
شعرت نجلاء بالغرفة تدور من حولها، تناولت الهاتف تدق على الهاتف المحمول الخاص بوالدتها لكنه مغلق، سيطرت على نفسها بقسوه وهي تدق على تليفون المنزل الأرضي لعلها تصل إليها لكن حياه هي من أجابت: السلام عليكم
تحدثت نجلاء بصوت متقطع: حياه .. إلحقيني
أقلقها صوتها الهامس المتوجع: مالك يا نجلاء ؟؟
-تعبانه أوي .. دايخه ومش قادرة أقف
-طب إنتي فين دلوقتي ؟؟
-أنا في البيت
- هاتي العنوان طيب وأنا هأجيلك
أملتها العنوان وبعدها فقدت السيطرة لتذهب في عالم أخر لا تدري فيه شيئاً.
نادت عليها حياه عدة مرات لكن لا حياة لمن تنادي، فكرت ماذا تفعل لا أحد بالمنزل غيرها هي والطفلة، سمية ذهبت برفقة زوجها إلى الطبيب وحمزه ذهب إلى عمله، ليس هناك من حل غير أن تأخذ مي مي معها.
وصلت إلى العنوان وصعدت لكن الباب مغلق وليس هناك من مجيب، طلبت من حارس البناية أن يكسر الباب بعد تردد فعل ما أمرت به خشية مصيبة أكبر.
اتصلت بالإسعاف عندما وجدتها ملقاه أرضاً ونقلتها إلى المستشفى، أجرى الطبيب العديد من الفحوصات والتحاليل كذلك مسحاً ذرياً مما أقلقها وأنساها أن تهاتف أهل نجلاء أو منزل حنان .. كما أنها لا تملك هاتفاً محمولاً ليتصلوا بها حتى يطمئنوا.
***
-أن مش عارفه إيه اللي بتعملوه دا ؟؟ .. هو أي واحدة كدا تأمنوها ع البيت وعيله صغيرة ؟
أخفت سمية وجهها خلف كفيها: يا حمزه حياه عمرها ما تعمل كدا
هتف غاضباً: أومال تفسري بإيه حضرتك أنه الساعة دلوقتي 10 وهي لسه ماجاتش وأصلاً خرجت مع البنت من غير استأذن
أحمد بصرامه: أتكلم كويس يا حمزه وما تنساش إني أبوك ودي أمك
قطع التوتر صوت الجرس، فتح أحمد الباب ووجد حياه تحمل مي مي النائمة على كتفها، ادخلها بعد أن تناول الفتاة منها.
استقبلها حمزه هاتفاً: وأخيراً الهانم شرفت
نهرته سمية وهي تكفكف دموعها بعد أن اطمئنت على عودة الطفلة سالمة: استنى يا حمزه نفهم إيه اللي حصل
قال أحمد بعد أن وضع الصغيرة بغرفتها: اهدى بقى .. إيه اللي حصل يا بنتي خلاكي تخرجي وتتأخري بالشكل دا من غير ما تقولي لحد ؟
تداخلت أصابعها بين بعضها من فرط التوتر وصارت تلويهم في قلق لا تدري ماذا تقول، حثتها سمية على الحديث دون خوف فقالت: أصل فيه واحده صحبتي تعبت فجأة وروحت أساعدها
سألها أحمد: طب ما اتصلتيش بينا ليه ؟
-مش حافظه أرقامكوا وماكانش معايا تليفون وكنت خارجه بسرعة، خوفت أسيب مي مي لوحدها لتخاف فأخدتها معايا
حمزه ساخراً: وإحنا عبط بقى عشان نصدق البؤين دول مش كدا ؟
ظهر العرق الصعيدي كعادته فقالت بعصبية: والله أنا مش بأقول الكلام دا عشان تصدقوا أو لا .. أنا قولت كدا عشان أبرر موقفي وأقول اللي حصل عشان من حقكوا مش أكتر .. لكن غير كدا ما عنديش حاجه تانية .. وأتمنى أنك تاخد بالك من طريقة كلامك معايا يا باشمهندس
هتف: مالها طريقة كلامي يا أستاذة، لأكون باكلمك من وداني والكلام طالع من مناخيري .. إنتي اللي ما تنسيش نفسك وإنك مجرد واحدة إحنا مشغلينها عندنا
نهرته سمية لكن أحداً لم يستمع إليها، هجمت عليه تدافع عن نفسها: والله أنا مش شغاله عند جنابك عشان تكلمني كدا .. مش عشان قبلت أقف جنب والدتك واستحملت إهانتك ليا يبقى أنا شغاله عندك !، وإذا كان ع القرشين اللي باخدهم من تدريسي لمي مي الله الغني عنهم يا شيخ!
انصرفت دون أن تستمع لنداء أحمد أو سمية، فيما فقد إحساسه بالعالم لدقائق ثم ركض مغادراً تاركاً الدهشة تعلو وجه والديه.
قاد سيارته وسار على مهل متلفتاً حوله، وجدها تسير بخطوات حازمة تحمل الكثير من الغضب، هدأ السرعة بشكل أكبر وأنزل الزجاج: تعالي اركبي
لم تعيره أي اهتمام وأكملت طريقها، عاد يطلب منها محاولاً كتمان غضبه: يا بنتي اطلعي هأوصلك بيتك وبعدين اعملي اللي إنتي عايزاه .. الجو ليل وما ينفعش تمشي لوحدك
بعد لحظات عندما فقد الأمل في إجابتها قالت بهدوء لا يتناسب مع حركاتها الغاضبة: ماينفعش أركب معاك العربية لوحدي
تنهد بحنق ثم دلف إلى الشارع الذي يليها، نظرت حولها لتجد أن هذا الشارع لا يسير فيه سواها تغلبت على خوفها وأكملت الطريق تدعو أن تصل سالمة.
لمحت مجموعة من الشبان يبدو من مشيتهم أنهم غير طبيعيين، من فزعها توقفت في مكانها بينما اقتربوا منها حالما رأوها.
انكمشت في مكانها مغمضة عينيها، سمعت صوت لكمات يتلوها تأوهت، فتحت عينيها ببطء عندما سمعت صوتاً لاهثاً يقول: مشيوا خلاص
تنهدت براحه، أردف: مش كنتي سمعتي الكلام وركبتي معايا أحسن
تحدثت إليه بعصبية حانقة تقذفه بنظرات اللوم: أنت اللي سبتني ومشيت
نظر إليها متعجباً من ردها: أنا روحت أركن العربية عشان أجي اتمشاها معاكي مادام مش راضية إنتي تركبي معايا
شعرت بالخجل يلفها فنظرت أرضاً، بدأوا بالسير صامتين حتى وصلوا أسفل المنزل دون أن يشعرا بمرور ساعة من الزمن.
تأكد من دلوفها إلى منزلها .. لم يقدم اعتذاراً عما قاله .. حدثت نفسها أنها ليست بأخر معلمة في الدنيا وأي معلمة أخرى تستطيع تأدية دورها إن لم يكن أفضل .. لكن نسي أن الأمر ليس بيده وأنه إذا اقتنع بما قال .. لن تقتنع هي!
***
حثتها حنان العديد من المرات على الحديث مع أهلها لكن لا تعلم لما هذه المرة بالذات التي أرادت حقاً فعلها.
استعارت هاتف حنان وخرجت إلى الشرفة تدق رقم المنزل الذي تحفظه عن ظهر قلب لتجد شقيقتها تجيب: السلام عليكم
صمتت لم تعرف ماذا تقول، هربت منها الكلمات كما لم تفعل من قبل، دائماً كان يوجد رداً حاضراً على طرف لسانها في أي ظرف لكن هذه المرة ...
أعادت: السلام عليكم
لم تملك سوى زفرة حارة اخترقت السماعة لتصل إلى أذن أختها ثم قلبها تُنبأها بهوية المتحدث الصامت: حياه ؟
بكت بعد أن ظنت أنه لم يعد هناك سبباً للبكاء، وأي سبب أقوى من الإشتياق، الإشتياق لحضنٍ دافئ وصدرِ حنون يستوعب جميع مشاكلك وتنهداتك المتألمة.
في اللحظة التي نطقت أختها باسمها علمت مقدار شوقها لهم، تريد التحليق الآن والذهاب إليهم حتى ولو سجنوها أو حتى قتلوها .. يكفيها رؤيتهم ولو للمرة الأخيرة.
-إزيك يا حيـ..
فجأة اختفى صوت أختها الباكي من الشوق واستُبدل بصوت شقيقها الأكبر محمود الهادر: إنتي ليكي عين تتكلمي تاني ؟؟ .. انسي إن ليكي عيلة إنتي فاهمة ؟؟ .. إحنا اعتبرناكي موتي وياريت تعتبرينا كدا بردو .. كفايه اللي عملتيه فينا بقى .. أبوكي وبقى عيان يخرج من أزمة يدخل ف التانية وأختك وقفتي حالها .. مافيش حد هيرضى بواحدة أختها هربت مع عشيقها .. شوفي حياتك بعيد عننا بقى .. إنتي خلاص فجرتي ومابقاش منك أمل.
اغلق الخط مانعاً توسلات شقيقتها من الوصول إلى أذنيها: ليه كدا يا محمود حرام عليك
أشفق على منظر شقيقته المتعلقة بذراعه والراكعة أسفل قدميه لكن الكبرياء في عائلة فاروق دائماً هو الغالب حتى أمام قلب يتمزق شوقاً وعطفاً.
على الطرف الأخر زاد تدفق الدموع فوق وجنتيها لكنها هذه المرة حسمت أمرها، لم يعد في بيت عائلتها من مكان، يجب أن تستمر في طريقها كما خططت، أكثر ما حزنت عليه وضع والدها ووقوفها في طريق سعادة شقيقتها لكن لم يعد بيدها حل ...
***
لم يتوقف اعتراض مي مي على عدم حضور حياه لتدريسها مجدداً عند تحطيم بعض الأغراض والإنقطاع عن الطعام إنما وصل إلى حالة إنهيار عصبي حاد.
تحدث إليهم الطبيب بحزم: إيه اللي حصل ضايقها لدرجة إنها دخلت ف حالة إنهيار بالشكل دا ؟؟ .. سنها ما ينفعش فيه الكلام دا وكمان حالتها !
أجابته سمية وهي تنظر لحمزه بلوم: أصل المُدرسة بتاعتها اعتذرت إنها تكمل معاها وهي اتعلقت بيها جداً
الطبيب بتفهم: بصوا يا جماعة هي انطوائية زي ما أنتوا عارفين فالنسبه لأنها تلاقي حد تقدر تنسجم معاه فدا ف حد ذاته انجاز كبير .. أياً كان السبب اللي خلى المُدرسة دي تمشي حاولوا ترجعوها عشان خاطر البنت
أومأ الجميع بتفهم، انصرف الطبيب بعد تأديته لواجبه تاركاً الجميع يفكر في حل مناسب لتلك المعضله.
أحمد: مش هترضى ترجع غير لو روحت أنت تعتذرلها وتطلب منها دا
نظر إليه حمزه مستنكراً فتابع: ما تبصليش كدا، أنت السبب وأنت اللي هتحلها لكن لو عاجبك حال مي مي كدا ف دا موضوع تاني
جلست سمية إلى جوار الفتاة متناولة كفها الصغير بين يديها تبكي حظ الطفلة؛ فهي تفقد من تحبهم دائماً.
***
فتح الضوء لينير الغرفة فور دخوله إليها، وجدها تجلس في الظلام تنظر إلى الـ لا شئ، ألقى مفاتيحه وهاتفه بالإضافة إلى محفظته على طاولة الزينة ثم اتجه يجلس جوارها، متوقعاً شجاراً جديداً كما اعتاد لكن لدهشته.
سألته بعد أن إلتفتت إليه بصوت أقرب للهمس: تعمل إيه لو أنا مُت يا فادي ؟
صدمه السؤال بشدة، لو تشاجرت معه لكان أهون عليه مما يحسه الآن، لم يفكر يوماً أن الموت قد يحرمه منها، إن مجرد طرح الفكرة يسبب له ألماً لا مثيل له، تمتم: بعد الشر ليه بتقولي كدا ؟
هزت كتفيها مدعية اللامبالاة: كلنا هنموت .. السؤال جه على بالي وحبيت اسأله
أضافت وعينيها لا تتزحزح عن مراقبة عينيه: طب لو شكلي بقى وحش أو شعري وقع .. رفعت أو تخنت زيادة لو الكل شافني وحشه .. هتفضل تحبني ؟
أجابها بهدوء: أنا شايفك بعيوني أنا .. بعيون قلبي
ارتمت بين أحضانه تبكي كما لم تبكي قبلاً، ضمها إليه خائفاً من فقدانها فعندما يطل شبح الموت على الواجهة تتغير الأولويات وقد تتغير المفاهيم أيضاً كأن رهبة الفقد الأبدي هي ما توقظنا من غفلتنا .. ننتبه عادة لقيمة أشخاص معينين في حياتنا عندما نوشك أن نخسرهم الخسارة النهائية التي ليس منها رجعة.
***
ترجل من سيارته بعدما صفها أمام المدرسة التي تعمل بها، شاهد الأطفال يتوافدون خارجين منها في سعادة لإنتهاء يوم دراسي أخر، شاهد حياه تخرج لكن تمسك بيد طفلة وتصحبها معها، شعر بالحيرة فكيف سيحادثها ومعها هذه الفتاة؟، بعد لحظات وجد رجلاً يقترب ويتحدث إليها ابتعدت الفتاة تسلم على أصدقائها قبل ذهابهم إلى منازلهم.
لم يكن يعلم أن تلك الفتاة هي سمر وأن ذلك هو والدها، لقد تحدثت إليه حنان قبلاً عن الطفلة ومعاملة زوجته الثانية لها، استمع إليها نادماً على ترك ابنته بين أبدي امرأة لا تؤتمن، كذلك اكتشف أنانيتها الشديدة وأنها لا تهتم بسواها، طلقها وقرر تكريس حياته لابنته حتى إشعار أخر.
جاءت حنان حيث كانت حياه تقف بإنتظارها، ودعتا سمر وانصرفتا إلى المنزل مشياً، تبعهم حمزه من بعيد وقد أثار حديثها مع ذلك الرجل حنقه.
لا يدري لما انتظر في سيارته أسفل البناية رغم تأكده من صعود حياه إلى الأعلى برفقة حنان لكنه حالما رأها تهبط من جديد محمله بعدة حقائب ثقيلة وممتلئة تتبعها مجدداً.
دخلت إلى دار الأيتام المشتركة بها حنان لتنوب عنها هذه المرة لأن حنان تشعر بالإرهاق الشديد فيبدو عليها بوادر المرض.
وقف خلفها مباشرة بينما توزع الهدايا على الأطفال، شعرت به فاستدارت على مهل ونظرة استغراب تتضح بشدة في عينيها لكن هذا ليس ما لفته إنما هناك شئ أخر هو الذي ذبح صدره بنصلٍ حاد.
سألته بهدوء: بتعمل إيه هنا ؟
أجابها بمشاكسته المعتادة معها: هي دار الأيتام دي حجر عليكي لوحدك ولا إيه ؟
تنهدت ثم عادت تصب اهتمامها على الأطفال، لقد تغيرت نعم، لقد احتل الحزن مكاناً ليس بهين داخل عدسات عينيها، ما سببه؟، بالتأكيد ليس هو لكن إحتمالية أنه السبب بذلك زاد انغراس النصل ممزقاً أحشاءه.
حان وقت الرحيل، أوقفها ليتحدث معها، أنصتت لما قصه عليها فيما يخص حالة مي مي منذ علمت بعدم عودتها مرة أخرى، ترقرقت دمعة في عيونها ولكنها أبت لها الهبوط في حضرته.
تمتمت بتحفظ: أتمنى لها الشفى قريب
رفع حاجبيه استنكاراً: بس كدا ؟ .. دا كل اللي عندك ؟
استفهمت منه: وأنا ممكن أقدر أعمل إيه أكتر من كدا ؟
أجابها بهدوء مصطنع: ترجعي تاني تدرسيلها
رفعت رقبتها بعنفوان: أسفة، كفايه اللي حصل لحد كدا، كل اللي أقدر أقدمه لحضرتك إني هأخد بالي منها لو قدرتوا تدخلوها المدرسة .. غير كدا فأنا أسفة
بدأ الإنفعال يسيطر على حديثه: بس إنتي عارفه إنها ما ينفعش تروح المدرسة، مش هتقدر تنسجم في حالتها دي، كمان لسه كانت في حالة إنهيار أي ضغط زيادة ممكن يعملها انتكاسه الله أعلم نتيجتها هتبقى إيه
رغم تمزق فؤادها بسبب كلماته وتخيلها لوضع حبيبتها إلا أن كبرياءها أبى لها الخنوع فقالت ببرود ظاهري: يبقى أنا ما أقدرش أقدملك حاجه .. عن أذنك
-أنا أسف
أحقاً سمعت تلك الكلمات؟، اعتذر لها أخيراً كانت تعلم أنه من النوع الذي يرفض الإعتذار مهما كان مخطئاً، فأصبح وقع تلك الكلمات عليها كالصاعقة.
إلتفتت إليه لتتأكد مما سمعت فتابع: كدا هينفع ترجعي ؟
رأت اليأس في عينيه كما لمعان الدمع في قاعهما، همهمت: للدرجة دي بتحبها ؟
لا تعلم لما سألت هذا السؤال فمن ذاك الذي لا يحبه أخته بالأخص إن كانت مثل مي مي، أجابها بتأني:
مي مي دي رمز لكل حاجه حلوة ف الدنيا، البراءة والطيبة .. الحنية والطفولة .. الشقاوة والعقل، لما بأقعد معاها أو حتى أشوفها بأنسى الدنيا واللي فيها مش بيبقى ف دماغي إلا هي .. دي رحمة ربنا بيا
تمنت وهي تنصت إلى كلماته بقلبها قبل أذنيها أن تكون هي محل مي مي لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه .. هكذا حدثت نفسها بينما كل ما تفوهت به: هأجي بكره في المعاد اللي كنت بأجي فيه قبل كدا .. مع السلامة
تركته قبل أن تخونها الدموع فتهبط أمامه معبرة عن ضعفها، تمنت أن يكون هناك من يقاتل من أجل سعادتها وراحتها كما يفعل هو من أجل مي مي، لقد تخلى عنها شقيقها عند أول منعطف حاد كأنها لم تكن بحياته، لما لم يحاول أن يأتي على رغباته لأجلها كما فعل حمزه قبل لحظات بإعتذاره .. حسدتها ولكن عادت وتمنت الخير لكلتيهما.
***
انتظمت في الذهاب إلى مي مي تعطيها دروسها، حامدة الرحمن على فك الجبس أخيراً من قدم سمية، بعد يومين ...
جلست على كرسي صغير حول طاولة دائرية في غرفة مي مي تجاورها الصغيرة، لمحت السلسلة حول رقبتها فسألتها: إيه دا، السلسلة دي مكتوب عليها اسمك يا "ميّ"
قطبت جبينها مبدية عدم رضاها عن الاسم فتابعت تسألها: إنتي ليه مش بتحبي حد يناديكي باسم مي ؟، مع إنه اسم حلو أوي ورقيق
هزت رأسها بعنف، هدأتها حياه: خلاص مش مشكلة مي مي حلو بردو
استرخت قليلاً فعادت حياه للحديث: إنتي ليه مش عايزه تتكلمي؟ مع إنه هيسهل عليكي حاجات كتير ويخلي عندك صحاب كتير أوووي أووي
نظرت لها الفتاة بصمت لدقيقة ثم تناولت الدمية من جوارها تسلمها إليها حتى تعتل مكانها في مسرح العرائس وتروي لها بعض القصص الممتعة.
تنهدت مي مي فتاة ذكية تستطيع تخليص نفسها في أشد الأوقات حرجاً لكن يا ترى متى سيجعلها ذلك الذكاء الحاد تتخلى عن قوقعة صمتها ..
قبل أن تتحرك من مكانها أتاها صوت حمزه الواقف على الباب يطلب منها أن تأتي للحظات فهو يريد التحدث إليها، تعجبت فهو لم يخاطبها منذ عادت واعتقدت أن السبب هو ندمه على الإعتذار الذي قدمه.
وقفت معه أمام باب الغرفة فسحبه قليلاً حتى لا يصل الصوت إلى أذني مي مي، مد لها علبة قائلاً بإبتسامة سحرتها: اتفضلي
تناولتها بتردد وقد دفعها الفضول لتعلم ماذا تحوي في جعبتها، رفعت إليه نظرات مملؤه بالدهشة: دا موبايل
هز رأسه مؤكداً: ليكي
أعادته إليه: مش بأخد هدايا من حد من غير مناسبة
رفع أحد حاجبيه: ومين قالك إنه من غير مناسبة ؟ .. دا هدية شكر عشان وقفتك جنبنا الفترة اللي فاتت أيام ما ماما كانت رجلها متجبسة وساعدتينا من غير مقابل
أضاف غامزاً إياها: كمان عشان لما تنزلي مستعجلة وتاخدي مي مي معاكي تقدري تكلمينا وتقوليلنا بدل ما واحد كدا ثقيل ورخم يقولك كلمتين يزعلوكي فتسيبي المسكينة اللي جوا دي وحالتها تقطع القلب
حاولت إخفاء إبتسامتها لكنه استطاع لمحها مما جعل إبتسامته تتسع أكثر، تمتمت: شكراً
هم بالإنصراف عندما استدار إليها متذكراً: أه صحيح هتلاقي عليها نمرة واحدة بس متسجلة .. هتلاقيها متسجلة باسم الأرجوز .. فدي نمرتي يعني لو عوزتي حاجه
عندما رأى إتساع عينيها، أضاف بمكر: وكان موبايلي تايه مش عارف بيتسرمح فين فرنيت عليه من موبايلك .. وأنا كشخص مش بأحب الأرقام الغريبة اللي مالهاش اسم دي بتبقى دخيلة كدا ودمها تقيل فسجلت النمرة باسم ...
صمت قليلاً مما جعل كل حواسها تنتبه وهذا ما أراده فأكمل: الشعنونه
كزت على أسنانها غيظاً، علق على حالتها: أومال أنا بس اللي يبقى اسمي عبيط ؟ .. دا بعدك
انصرف وتركها في حالتها تلك لكن لم تمر لحظات حتى انفجرت ضاحكة، إنه مجنون، عادت إلى الداخل حيث مي مي التي نظرت إلى العلبة في حيرة.
-تعالي نقعد نستكشف البتاع دا بيشتغل إزاي ههههههه لا وجايبهولي حديث كتر خيره
قفزت الفتاة في مرح فهي تعشق اكتشاف كل جديد وجلست إلى جوار حياه .. استغرقوا في قراءة كُتيب التعليمات.
لم يشعر أياً منهما بأن هناك من يتابع الحديث منذ بدايته، بوجه جامد لا تعلوه أي تعبير سواء الرضا أو السخط ..
***
شعرت بأن جدران المنزل تطبق على صدرها حد الإختناق، تريد التحدث إخراج ما بداخلها، تبكي وتطلق العنان لمشاعرها حتى تعبر عن الأعاصير التي تدور دون توقف في نفسها، لم تجد غيرها حلاً فهي من رافقتها إلى المستشفى .. لا تعلم نتائج الفحوصات ولكن ما الضرر الذي سيحل إذا علمت .. ستأتمنها على السر متأكدة من حفظها له .. مستغلة إنشغال زوجها في شركته.
أتت إلى منزلها فقد حفظت العنوان قلقة من صوتها الذي أتاها عبر الهاتف، قبل أن تنبس بحرف ارتمت نجلاء بين ذراعيها تبكي بكل ما يجيش داخل قلبها من قلق.
مر وقت لا بأس به حتى هدأت وبدأت تقص عليها ما ظهر بالتحاليل والنتائج التي أطلعها عليها الطبيب المختص.
أنهت قصتها باكية: طلع كانسر ف المخ .. أنا لحد دلوقتي مش قادرة أصدق
حزنت على حالها ولكنها تماسكت فهي ليس بحاجه إلى إنهيار أخر بل إلى دعم: طب الدكتور قالك إيه عن الحاله .. مرحلته إيه ؟
-هو قال إنه لسه في مرحلته الأولى وإنه العلاج الكيماوي ممكن يجيب نتيجة وما نضطرش نستخدم التدخل الجراحي
شجعته بأمل: طيب الحمدلله .. احمدي ربنا إنك اكتشفتيه ف الأول وهنلحقه إن شاء الله
-بس الكيماوي هيوقع شعري .. هيخليني دبلانه
نظرت إليها متعجبة: وإيه المشكلة ؟؟ .. دي فترة وهتعدي
صوبت بصرها إليها غاضبة: وجوزي؟؟ ... هيبصلي إزاي لما أبقى بالشكل دا ؟؟
ربتت على ظهرها: أكيد مادام بيحبك هيقف جنبك وهيصبر معاكي
انتفضت واقفة تتحدث بعصبية: يصبر على إيه ولا إيه .. على إني مش بأخلف ولا على واحدة ممكن تموت ف أي لحظة ولا على شكلي اللي هيبوظ أكتر
وقفت حياه أمامها بصرامة: الموت دا حقيقة موجودة ف أي لحظة بتحصل، مش من ساعة ما عرفتي بالمرض وبس!، شاب ماشي بصحته ف الشارع فجأة وقع مات .. واحدة فجأة جاتلها سكتة قلبية ماتت .. طفل صغير بيعدي الطريق ظهرت عربية الله أعلم منين خبطته فمات .. أنا نفسي ممكن أموت قبلك .. إيش عرفك؟؟ .. إنتي بس أخدتي بالك من الموت لما خبط على بابك لكن هو موجود في كل مكان حولينا بس إحنا اللي مش بنحب نشوفه غير لما يجبرنا نبص عليه.
أما بالنسبة بقى لموضوع الخلفه فمن اللي شوفتهفادي مش فارق معاه مادام إنتي معاه، هو أصلاً طول اليوم ف الشغل ولما بيجي بيبقى عايز يريح دماغه وينام، لكن طفل في البيت وصداع وعياط وجيبله كذا والطلبات اللي ما بتخلصش، هو لسه في بداية الطريق أكيد هيبقى حمل زيادة عليه
شكلك بقى .. ماله شكلك؟ .. دي فترة بس العلاج الكيماوي وبعدين هترجعي زي الأول وأحسن .. أصلاً لو أهتم بشكلك على حساب صحتك فدا مش هيبقى دليل إلا على حاجه واحدة بس .. إنه ماكانش بيحبك أساساً! ... وبعدين خليكي واثقة ف نفسك وف أنوثتك
ضمتها نجلاء قائلة بضعف: ما تسبنيش يا حياه، أنا محتجاكي معايا، إنتي اللي هتفوقيني، الكل بيجاملني .. حتى ماما لكن إنتي اللي بتكلميني بصراحة ودي أكتر حاجه محتاجها الفترة اللي جايه
تحسنت حالتها أكثر وحاولت حياه أن تصرف إنتباهها عن الموضوع فأخذتها إلى المطبخ تعلمها طبخات جديدة تقضي بها بعض الوقت قبل أن يعود فادي وكذلك تشغل عقلها بشئ مختلف.
أثناء إنشغالهما في المطبخ دق جرس الباب، ذهبت نجلاء تفتحه لتتفاجئ بقدوم زوجها مبكراً وأيضاً برفقة شقيقها.
خرجت حياه ضاحكة لا تعلم بقدوم أخرين: تعالي بصي يا نوجه على الأشكال الهبلة اللي عملتها ..
تبخر ما كانت تريد إضافته لجملتها السابقة عندما ألتقت عيونها بنظرات حمزه الضاحكة الذي علق بمكر: هو لازم نوجه يعني هي اللي تيجي تشوف؟ .. ماينفعش أنا مثلاً ؟
استدارت تواري خجلها: أنا داخله المطبخ أكمل أبقي تعالي يا نجلاء ما تتأخريش
عقب حمزه مشاكساً: بقت نجلاء دلوقتي ؟؟ مش كانت من شوية نوجه ؟؟
قرص فادي ذراعه فإلتفت إليه حانقاً: في إيه ؟
غمزه: خف ع البت شوية، هي مش قدك وأنت رايق يا دونجوان
نجلاء باسمة: أه يا ريت فعلاً تخف يا حزومه
أمسك بذراعيهما ودفعهما بعيداً عنه: ما تتلهوا أنتوا الإتنين ف بعض وتفككوا مني !
سامح: خلاص خلاص ما تزؤش أنا رايح أغير هدومي
حمزه مشيراً إلى نجلاء: وإنتي روحي مع جوزك مش ناقص زن
تركاه وضحكاتهما تتعالى، عدل من وضعية ملابسه وجذب ياقة قميص: استعنا ع الشقى بالله
دلف إلى المطبخ حيث وجدها منخرطة فيما تفعله لإعداد الطعام، تحدثت ظناً منها أن القادم هي نجلاء: مش كنتي تقولي أنه جوزك وحمزه جُم ولا تسبيني أطلع على عمايا كدا ؟؟
-صدقيني أحلى ما فيكي البراءة والعفوية .. الحمدلله إن نجلاء ما حذرتكيش
لمح اشتداد عودها متصلباً، كانت على وشك البكاء؛ لما يأتي دائماً في اللحظات غير المناسبة عندما تكون على راحتها في الكلام سيظنها طفلة هكذا كما أنها لا تتذكر موقفاً واحداً رأها فيه تتصرف بعقل وتتحدث برزانة.
أضاف ليزيد إرتباكها: دي أول مرة اسمعك تنطقي فيها اسمي .. مش بيعض مش كدا ؟؟
أرادت أن تصحح له فكرته تلك فهي تردده دائماً لكن بينها وبين نفسها ليس أكثر، فهو بالنسبة لها كالحلم الجميل إذا سردته طار مبتعداً بين الأفق.
سحبته نجلاء إلى خارج المطبخ: روح أقعد مع فادي قدام التي ڨي عقبال ما نخلص الأكل ونناديكوا
انصرف صامتاً فليس هناك من جدوى في بقاءه مادامت نجلاء ستبقى واقفة بينهما، جلس بجوار فادي شارداً، تغير تفكيره كثيراً، لقد كان يتجنب أي إحتكاك مع النساء لكن منذ ظهرت هي في حياته أصبح يبحث عن كلمات كي يناكفها بها.
***
أجاب الرنين المتواصل لهاتفه بملل: خير؟
هب واقفاً عندما سمع الخبر الذي نُقل إليها حالاً، أغلق الخط وخرج مسرعاً نظرت له جميلة متسائلة: هو حصل إيه؟
-عرفوا مكانها !
تركهم منصرفاً بسرعة والسعادة تشع من عينيه كما لم تفعل منذ فترة، زفرت جميلة بحدة واتجهت إلى غرفتها غاضبة، استرخت نيفين أكثر في جلستها وشردت عينيها بعيداً أما فتون فظهر الحزن بعينيها وعضت شفتيها قلقاً.
الفصل التاسع
تبادلوا الضحكات والمزاح أثناء تناولهم الطعام .. شعرت بتأقلمها معهم كأنها تعرفهم منذ زمن، هي معتادة على الإنسجام مع الناس بسرعة فقد كانت تتعامل يومياً مع أناس مختلفين بحكم أتخاذها للخبرة الكافية في مجال دراستها ولممارسة اللغة كما أن تخصص سلمى صديقتها في كلية إقتصاد وعلوم سياسية جعلها تشاركها الكثير من التعامل مع الناس لكن لكل منهما هناك هدفاً مختلف.
كانت أغلب نظراته تقع عليها ولا تتحرك، تتابع حركاتها ورموش أجفانها رد فعلها ضحكتها العفوية .. كل شئ .. رغم عمرها شعر أنها ما تزال تحتفظ ببراءتها .. طفلة في جسد امرأة .. هز رأسه مقتلعاً عينيه من فوق وجهها.
رن هاتفها فانسحبت تجيب، شعر برغبة جامحة في معرفة من الذي نهضت لتتحدث إليه بعيداً عنهم مما جعله يلحق بها بينما تبادل فادي وزوجته النظرات .. تدل على تفاهم متبادل بين الزوجين.
-حاضر يا حنان .. يا بنتي اللي يشوف كدا يقول إنك مامتي .. هههههه عاجبني يا ستي ولا تزعلي نفسك .. خلاص والله هأعتذر منهم وأجي .. ماشي مع السلامة
استدارت لتعود إليهم لكن جسد حمزه منعها من المرور .. ابتسم: هتمشي؟
أومأت مجيبة بصوت هامس: أيوه
عقد ذراعيه: طبعاً مش هترضي إني أوصلك مع إن الليل داخل خلاص
هزت كتفيها: زي ما قولتلك ما يصحش .. ممكن أعدي بقى ؟
تنحى جانباً في صمت سامحاً لها بالمرور .. اقترح على شقيقته وزوجها أن يأخذهما إلى إفتتاح معرض لوحات لأحد الفنانين الذين يحبهم فادي بشدة، فرحب بالفكرة كذلك نجلاء.
أضاف حمزه ناظراً إلى نجلاء بتحدي: ونوصل الأنسة ف طريقنا بالمرة
راجع الجملة التي قالها فلم يجد بها سبباً للألم الذي ظهر في عينيها فجأة ..
أوقف السيارة أسفل البناية التي تقطنها وانتظر حتى تأكد من صعودها قبل أن ينطلق بسيارته مع شقيقته وفادي إلى حيث أتفق معهما.
ارتفعت الأعين المليئة بالشر والوعيد إلى الشرفة التي وقفت بها تطل على السيارة تتبع انصرافها بقلب مشتاق ثم تدلف إلى الداخل بهدوء مغلقة باب الشرفة خلفها وتشد الستار الشفاف عليها.
***
-أنا مش عارف إيه الاجتماع السري دا ؟؟
-مش عايزه حد يعرف الموضوع اللي عايزاك فيه ؟
-حد مين يعني؟ .. البيت مافيهوش غير بابا ومي مي .. من إمتى بتخبي حاجه يعني؟
علقت مركزه نظراتها على عينيه: وحياه
حاول إخفاء توتره ناسياً أن والدته كانت ناظرة مدرسة للمراهقين وتعرف علامات الإعجاب والحب من نظرة عين: مالها ؟
تنهدت: بتحبها ؟
كان تقريراً أكثر منه سؤالاً .. تنهد: بتسألي ليه ؟
-من ساعة ما شوفتها لما رجعت وأنت كل شغل يجيلك فيه سفر ترفضه مش بتقبل غير الشغل اللي مش محتاج سفر .. جبتلها موبايل هدية .. بتوصلها لبيتها .. حاجات كتير يا حمزه
نظرة جليدية طغت على عيونه: والمطلوب ؟
-بص يا ابني إحنا مش نوعية الناس اللي تلعب بالأعراض .. عايزها أتجوزها وأنا مش هأقف قدامك لكن طريقة الحرمية دي مش أسلوبنا ولا أنا ربيتك على كدا
شرد بعيداً قبل أن يردد: بس أنا مش مستعد للجواز دلوقتي
أجابته بحزم: يبقى تبعد عن طريقها وتسيبها تشوف حالها .. ما تلعبش بقلوب البنات يا حمزه عشان أنت مش قد نتايجه
تناولت حقيبتها مضيفة: فكر كويس ف اللي قولتهولك يا تمشي صح يا تبعد عن طريقها نهائي هما حلين مالهومش تالت .. هأروح لأختك أطمن عليها .. سلام
تركته يتخبط في أفكاره لا يدري ماذا يفعل، لم يفكر في الخطوة القادمة وبالتأكيد لن تكون الزواج، هناك شكوك تعتمل بقلبه تجاه الجنس الناعم .. فقد يكون ناعماً من كثرة الاستخدام !
***
تعجبت من طلب أحمد بأن تبقى مع مي مي حتى عودته فقد نُقل أحد أصدقائه إلى المشفى على عجل ويجب أن يذهب ليطمئن عليه .. وسمية خرجت برفقة حمزه لا تدري إلى أين.
استسلمت بالنهاية للحدث الراهن، شاركت الفتاة لعبها بعد أن أنهت شرح دروسه وتأكدت من استيعابها الكامل له، نظرت إلى ساعتها معلنة تمام السابعة .. إذاً لقد حل الظلام.
رحبت بدق الباب واتجهت تفتحه فهي مشتاقة للعودة إلى المنزل لتستحم وتغط في نوم عميق .. لقد كان يوماً متعباً فالمدرسة ويليها دروس مي مي ثم اللعب معها استهلك طاقتها كلها.
دفعها الطارق إلى الداخل مغلقاً الباب بسرعة .. شهقت فزعاً عندما تعرفت عليه لكنه لم يسمح لها بأكثر من ذلك فقد أطبق على فمها يخرسه .. حاولت دفعه ومقاومته بلا جدوى.
همس بشراسة وأنفاسه تخترق حجابها وصولاً لأذنها: كنتي فاكره إنك هتقدري تهربي مني؟ ولا فاكره إني هأسيبك تفلتي من بين إيدايا؟ .. في الحالتين دا بُعدك!
توسلت إلى ربها بدموعها التي لا تملك سواها .. فتح الرجل الأخر الذي يصحبه الباب ليتأكد من خلوه لكن لحسن حظها و سوء حظهم كانت هناك مشكلة في الدور السفلي بين جارين لسبب ما .. فقررا الإنتظار قليلاً.
لمحت حياه الطفلة تقف مذعورة على باب الغرفة فأشارت لها بعينيها لتختبئ بالغرفة خوفاً من أن يصيباها بمكروه .. تبادلاتا حديثاً صامتاً من خلال الأعين لم يشعر بهما أحد فالأول يراقب الشارع من النافذة وهو يمسكها في قبضته والأخر يتابع تطور المشكلة بين الجيران.
ارتعشت الطفلة خائفة، لقد رأت لأول مرة مسدساً حقيقياً معلق في حزام كلا الرجلين .. تناولت الهاتف الخاص بحياه الذي أهداه إليها حمزه من قبل، تذكرت حياه عندما أخبرتها ضاحكة أن أخاها مجنون لدرجة أنه كتب اسمها على هاتفها "الأرجوز" .. بحثت عن الاسم حتى وجدته وانتظرت تسمع الرنين.
***
جلس مُسعد في الكرسي المقابل لصديقه أمام النيل .. طلبه حمزه قائلاً أنه بحاجه إليه فترك ما بيده وأتى إليه راكضاً فليس من عادته استخدام تلك الكلمة كما أن صوته لا يشي بالخير لكن منذ ذلك الحين وهما يجلسان أمام بعضهما.
زفر مُسعد: يا ابني أنت جايبني هنا عشان نلعب تماثيل إسكندرية ؟ .. ما تنطق في إيه ؟
لم يرد ومرت دقائق أخرى من الصمت فقد فيهم الأمل بأن يتلقى جواباً على سؤاله لكن حمزه تحدث قائلاً بشرود: مش عارف أخد قرار
ضرب ظهر يده بكفه الأخر ثم مسح على وجهه طالباً الصبر من الله: فهمت إيه أنا كدا بالصلاة ع النبي ؟؟
هم حمزه أن يفرغ ما في جعبته لكن قطعهما رنين الهاتف المتواصل .. لمح مُسعد بطرف عينه اسم المتصل بهتف مندهشاً: الشعنونه ؟؟
ظل حمزه ينظر إلى الهاتف متردداً في الإجابة، حثه مُسعد على الرد كاتماً ضحكته فمن تردد صديقه توقع أن تكون تلك الـ "شعنونه" هي سبب حيرته وشروده.
أول ما التقطته أذنه كان صوت نحيب مما أشعل القلق في قلبه، همس: حياه ؟
جاءته همهمت أحد يريد الحديث لكن الكلمات لا تطاوعه، أحباله الصوتية تلجم الكلمات وتمنعها من النفاذ عبر الحنجرة، سمع صرخة وشخص يتحدث بصوت عالي مهدداً، تساءل بعصبية: حياه !!
أته صوت طفلة يقول بحروف متقطعة: ألحـ قــ نا يا .. أبيــه حمزه .. في ناس .. اتنين رجاله .. ماسكين ميس .. حياه وبيضــ ربوها !
لم ينتظر حتى يسمع أكثر من هذا، أمسك مُسعد من ذراعه يُنهضه معه دون أن يفهم الأخر أي شيء كل ما فعله هو التشبث بمقعده المجاور لحمزه الذي يقود بسرعة جنونية تكاد ترسلهما إلى حتفهما.
***
حاولت الفكاك من بين قبضته لكنه صفعها حتى سمع صراخها قائلاً بتلذذ شيطاني: أيوه سمعيني صريخك .. إنتي لسه ما شوفتيش حاجه من اللي هأعمله فيكي !
سألته متحاملة على ألمها: أنت عايز مني إيه ؟؟ .. شادي أنا ما بلغتش عنك ولا قولت حاجه أنا عايزه أعيش حياتي وبس !
أمسك شعرها عبر حجابها صارخاً في وجهها: إنتي مالكيش حياة بعيد عني إنتي فاهمة ؟؟ حياتك معايا وبين إيدي أنا وبس
ردت بتحدي لا يتناسب مع وضعها: لا .. حياتي وحياتك ف إيد ربنا .. أنت ما بتخافش من ربنا ؟!
يبدو أن عقلها توقف عن العمل فكيف يهاب الله وهو يفعل ذلك في الفتيات ممزقاً أعراض النساء .. ليس من المعقول أن يكون قواداً وفي ذات الوقت يخشى سخط الله.
ضحك ضحكة أفزعتها: ربنا ؟؟ .. سبنالك إنتي الخوف منه يا ستنا الشيخة
لمح مرافقه الطفلة وهي تحاول الإختباء وفي ذات الوقت لا تحرك عينيها عن حياه فهي التي تهبها القوة والإحساس بالأمان.
أمسك بها وهي تصرخ محاولة التسلل من قبضته لكن هيهات أن يفلت الأرنب من براثن الذئاب.
أنفض الإشتباك بين الجيران وساد الهدوء العمارة؛ فقرر شادي الإسراع بالرحيل قبل أن يأتي ما يعطلهم من جديد، اقترب منها وهمس بوحشية: عارفه لو عملتي حاجه كدا ولا كدا تلفت الأنظار .. اقري على البت دي الفاتحة وإنتي اللي هتشيلي ذنبها .. لأنه إحنا خلاص من كتر اللي ماتوا تحت إيدينا مابقاش عندنا إحساس
تمتمت متوسلة: طب هتعمل بيها إيه ؟ .. سيبها وأنا هأمشي معاك لوحدي
بكت الطفلة بشدة: لا ما تسبينيش يا ميس حياه
هول الموقف منعها من التركيز على عودة قدرة مي مي على الكلام، قالت مهدئة مي مي: حبيبتي إنتي هتفضلي هنا لحد ما ماما وبابا يجوا ماشي ؟
ضغط على ذراعها لتنهض: إنتي تسكتي خالص .. هي هتيجي معانا عشان ما تصرخش وعشان جنابك ما تعمليش حركة جنان كدا ولا كدا
مسحت وجهها كما أمرها وطلبت من الفتاة إلتزام الصمت حتى لا يصيبها مكروه، هبطت معهم باستسلام صامت، في الوقت الذي احتاجت فيه أن تكون وحيدة حتى تستطيع التصرف فحياتها ملك لها وحدها وجدت من يتشبث بها ولا يرغب في الإبتعاد عنها على عكس الأوقات التي كانت تتمنى أن تجد من يتعلق بها ويثبت أهميتها في حياته ولم تجد .. إنها سخرية الحياة.
أمام باب السيارة وقبل أن يصعدوا إليها، وصل حمزه وكان يهم بالترجل من سيارته، لمحته مي مي فصرخت باكية تطلب منه المساعدة: أبيه حمزه !
رفعت حياه نظرها ولمحته لكن شادي ومرافقه كانا أسرع منهم فقد قذفوا بهما داخل السيارة وانطلق سائقها الذي كان بانتظارهم يقود بسرعة قبل أن يصل إليهم حمزه.
***
تذهب وتعود إياباً، لقد استبد بها القلق، لأول مرة تتأخر إلى هذه الساعة، أيضاً لا تجيب على هاتفها، هل أصابها مكروه أم ماذا ؟؟؟
حاولت الجدة أن تهدأها لكن كيف لها أن تنجح وهي نفسها تشعر بالتوتر قد تمكن من كل خلاياها، هناك شيء ما في قلبها ينبؤها بحدوث أمر سئ لتلك الفتاة منعها من العودة.
قررت أن تكرر الإتصال لعلها تصيب هذه المرة.
***
التوتر والبكاء يسود المنزل، سمية تبكي الصغيرة التي لا تعلم من أخذها وأين ذهبت، تواسيها نجلاء ودموعها تهبط على وجنتيها معلنة ألمها هي الأخرى.
أنهى أحمد حديثه مع ضابط الشرطة بعد أن طلبوه عند علمهم بما حدث وحادثة إختطاف الطفلة ومعلمتها ومُسعد يقف إلى جواره يدعمه كذلك فادي.
أما حمزه فمنذ فشل في تتبع أثرهما وهو صامت لا يتكلم رأسه تدور من هؤلاء وماذا يريدون .. لقد كانوا مهره إلى درجة قدرتهم على إضاعته بسهولة شديدة .. وكان من الغباء وقلة التركيز بأن فشل في اللحاق بهم.
بعد رحيل الضابط حل الصمت على المنزل، صمت يشوبه التفكير والتساؤلات لكن قطعهم إرتفاع رنين الهاتف الذي لم يكن يخص أياً منهم .. تبادلوا نظرات الاستفهام، كان حمزه أسرعهم فتتبع الصوت وأمسك بالهاتف مكتشفاً هوية صاحبه .. كان الهاتف يضئ باسم "حنان" .. أجاب خائفاً من فقدان الإتصال ليسمع الطرف الأخر يتنهد براحة نسبية: حرام عليكي يا حياه وقعتي قلبي فينك إنتي لحد دلوقتي كنت هأموت من القلق يا بنتي
لم يتفوه بكلمة فعاد القلق يسطو على نبرتها: حياه ؟؟
تنهد مجيباً بتماسك: حياه اتخطفت ..
أعطاها العنوان على وعد بالقدوم بأسرع وقت .. طمأنت جدتها وهبطت تتسابق مع نفسها لتصل في زمن قياسي، أخبر هو أهل المنزل بقدوم حنان التي تقطن برفقة حياه.
بعد أن حضرت وقصوا عليها ما حدث بالإضافة لقلقهم من هوية هؤلاء المجرمين، ترددت حنان في البداية لكنها أخبرتهم بقصة حياه حتى قابلتها لعل ذلك يكون بداية الخيط للوصول إلى الجاني.
أسرع أحمد يتحدث إلى ضابط الشرطة يخبره بالتطورات وحمزه في عالم أخر يفكر بأنها ليست ذلك الملاك الذي ظنه، لم تكن بريئة .. اتضح أنه أكثر براءة منها.
لفتت تلك النظرة التي لمعت في عيني حمزه إنتباه حنان فلحقت به إلى الشرفة حيث خرج يشتم بعض الهواء العليل، انضمت إليه تخبره أكثر منها تسأله: هتتخلى عنها بعد ما عرفت الحقيقة مش كدا ؟
راقبت لمعان النجوم وإختباء القمر خلف عدة سحابات متلونة بلون الليل مضيفة بتوسل: أتمنى إنه دا ما يمنعكش إنك تدور عليها وتلاقيها .. مش عشانها قد ما هو عشانك .. صدقني التعايش مع إحساس بالذنب دا أسوء أنواع العقاب والتعذيب النفسي .. وقتها هتتمنى تموت والإحساس دا يبعد عنك لإنه بيخليك تموت 100 مرة ف الدقيقة.
تركته يتخبط في أفكاره، أخلاقه كما دينه لن يسمحا له بفعل عكس ذلك معها رغم أنها كسرت بداخله شيئاً لا يتوقع إصلاحه في وقتٍ قريب .. ما جعله يدخل في تلك الحالة هو أنه قد استقر على طلبها للزواج فور فزعه وقلقه أن تكون ف خطر لكن المفاجأة التي سمعها من حنان الآن ألقت بأحلامه إلى البحر تلتهمها الأسماك دون الإبقاء على شيء منها.
***
ألقاها أرضاً بغرفتها التي خصصت لها منذ حضرت إلى هذا المكان في المرة الأولى، تشبثت بالطفلة لتحميها من بطش هذا الكائن الذي لا يرقى ليصبح إنساناً.
رفع سبابته في وجهها محذراً: فكري تهربي مرة تانية وقتها مش هيطلع عليكي صبح
ثم أضاف ناظراً للفتاة: ولا ع الأمورة يا حياه .. فاهمة ؟؟
تركها صافعاً الباب خلفه، ضمت مي مي إلى حضنها تبكي الحال الذي وصلت إليه كذلك جرت معها طفلة ليس ذنبها شيء إلا أنها تعلقت بها وأحبتها من كل قلبها.
رفعت مي مي كفها الصغير تكفكف دموع حياه قائلة: ما تعيطيش يا ميس حياه .. أبيه حمزه مش هيسبنا وهيخرجنا من هنا ويخلي عمو اللي برا دا يبعد عننا خالص
لأول مرة تنتبه حياه إلى أن مي مي لا تستخدم الإشارات لتوصل ما ترغبه بل تتحدث بلسانها دون أخطاء، سألتها مصدومة: إنتي بتتكلمي ؟؟
أومأت باسمة: أيوه، لما طلبت أبيه حمزه في التليفون الكلام طلع
أمسكت رأسها تجذبها إلى صدرها تبكي لكن هذه المرة دموع الفرحة: الحمدلله .. الحمدلله
ظلت تضمها حتى أتى سلطان النوم ليأخذها إلى عالمه بعيداً عن هذا العالم الذي بكل أسف هو الواقع .. أهذا هو الحب الذي طالما بحثت عنه .. تفتقده في حياتها فعاشته بين دفتي الكتب، تلتهم الروايات والحكايا علّها تجد فارسها بين السطور، لكنها اصطدمت بواقع الحياة فليس الحب في دنيانا كالحب بين صفحات الروايات، تمنت في كثير من المرات أن يخرج فارسها من بين دفتي إحدى الروايات ليكون زائر أحلامها الدائم ورفيق دربها الأبدي، لقد كان يجذبها إلى فارسها مظهره قبل ما بداخله، هنا بدأت غلطتها وهنا أنتهت أحلامها، فقد رزقها الله بالمظهر كما تمنت لتدرك أن هناك ما هو أهم منه ويفوقه حُلماً ألا وهي الأخلاق الحميدة والعقيدة المتينة، فلو كان شادي يملك ديناً قوياً متيناً ما ألت إليه نفسه إلى ما يفعله الآن، لأول مرة تمنت عدم معرفتها بالحب .. عند ذلك الحد تذكرت حمزه، لِمَا ذكرته في هذه اللحظة بالذات، لقد أنكرت كثيراً حبها له وتعلقها به ولكنها لم تعد تستطيع بعد الآن.
***
مر يومان على ما حدث حينما دخلت عليها نيفين متسللة حتى لا يعلم شادي بدخولها أو حديثها إلى حياه، اقتربت منها توقظها.
انتفضت مجفلة وتبادلت مع نيفين نظرات الإستغراب: في إيه ؟
استقامت نيفين في وقفتها: إيه مش عايزه تخرجي من هنا ولا إيه ؟
انتبهت جميع خلاياها منصتة فتابعت: جهزي نفسك بكره زي دلوقتي هتكوني بعيد عن هنا إنتي والبت اللي معاكي كمان
تركتها وغادرت دون أن توضح كيف ولماذا تفعل ذلك ؟؟؟
***
انشغل بالبحث عن الأماكن التي يمكن أن يلجأ إليها شخص كشادي ليخبأ مي مي وحياه، لم يتخلى عنه صديقه مُسعد .. قررا أخذ قسطاً من الراحة في إحدى الكافيهات يتشاوران في الخطوة التالية التي يجب عليهما أتخاذها.
دق هاتفه مُعلناً اتصالاً من رقم غريب، أجاب مسرعاً على أمل أن يكون الخاطف أو أحد أتباعه، فإذا خطفوا حياه فما ذنب الصغيرة؟
تفاجئ بصوت أنثوي ناعم يقول بدلال: حمزه .. إزيك ؟
لم ينسى صوتها الذي كان يسهر معه الليل، يسمعه يصب في أذنيه أبهى كلمات العشق والوله، لكن للغرابة أصبح يشعر الآن بأنه يشبه حفيف الأفعى عوضاً عن زقزقة العصافير.
أجابها بملل: عايزه إيه ؟
-أشوفك
-ليه؟
-لما أشوفك هتعرف
تنهد بقوة فاقداً صبره ثم أخبرها باسم الكافيه فعرفته، تعجب مُسعد من قبوله لرؤيتها لقد توقع أن تكون السبب في لوعة صاحبه من طريقة حديثه إليها .. لا يمكن أن يكون أصابه الضعف تجاهها عندما سمع صوتها حتى أن طريقة كلامه لا تشي بذلك.
-تحب أقوم أمشي عشان تاخدوا راحتكوا
-راحتنا إيه بس .. أنا عايز أشوفها عايزه إيه، عشان أخلص من زنها .. أنا لو ماكنتش وافقت أقابلها كانت كل دقيقتين تتصل بيا وتشتغل بقى عليَّا .. وأنا بصراحة مش ناقص وجع دماغ هي صفحة ولازم تتقفل بأي شكل
أطمئن مُسعد على صديقه، أتت بعد حوالي الربع ساعة بأبهى حلتها لكن لم تثر به أي شيء فمن اعتاد على رؤية الملابس الواسعة المحتشمة والوجه الخالي من الكيماويات لن يلقي بالاً إلى ما هو أقل شأناً .. فمن ترقى لا ينظر إلى ما هو أدنى.
انسحب مُسعد يجلس على طاولة مجاورة تاركاً لهما حرية الحديث، يجب على صديقه تمزيق صفحته معها ليستطيع البدأ من جديد.
فتحت الحديث: عامل إيه ؟
أجابها بجفاء: ما اعتقدش إنك اتصلتي بيا وطلبتي تقابليني عشان خاطر تسأليني السؤال دا
ابتسمت: معاك حق .. هأدخل في الموضوع على طول .. أنا قررت أطلق
-هو إنتي اتجوزتي كمان ؟؟ .. ما شاء الله .. أنا أخر مرة شوفتك كانت خطوبة بس
أضاف ببرود: وهتطلقي عشان لاقيتي واحد أغنى ولا عشان جوازك كان غلطة ؟
تجاهلت تلميحاته: عشان كان غلطة .. حمزه أنا كنت فاكره إن أهم حاجه ف الدنيا هي الفلوس، لكن بعد ما أتجوزته وعشت معاه في بيت واحد اكتشفت إن الفلوس لوحدها ما تنفعش .. أنا كرهت نفسي وحياتي معاه .. مش متخيل حياتي معاه جحيم إزاي !
-ما يخصنيش كل اللي بتقوليه عليه دا .. تتجوزيه تسيبيه إنتي حرة .. ما عادش يفرق معايا
أمسكت يده عبر الطاولة: بس أنا لسه بأحبك يا حمزه
سحب يده حانقاً من جرأتها: وأنا مش بأحبك يا هاجر .. وياريت ما تحاوليش تتواصلي معايا تاني لإن اللي بينا أنتهى .. أنتهى من ساعة ما سبتيني عشان تروحي للأغنى
نهض مشيراً لمُسعد حتى يلحق به بينما جلست والغيظ يفتك بأعصابها، لقد ظنته أحبها لدرجة أنها مهما دارت سيقبلها، بمجرد أشارة منها إليه سيأتي راكعاً ملبياً نداءها، لا تعلم أن الرجل ينسى الحب بمجرد تفكير الحبيبة في المساس بكرامة رجولته، هي لم تمسها فحسب بل داست عليها بكعب حذاءها .. فضلت عليه رجلاً أخر ليس لأنها أحبته بل لأنه يملك مالاً وأكثر استعداداً منه مادياً.
الفصل العاشر
بقيت ساهرة في إنتظار نيفين كي تفي بوعدها، تأملت مي مي وهي نائمة لم ترد إقلاقها لشئ قد يكون مجرد وهم، سلمتها لسلطان النوم حتى تعلم موضع قدميها.
ترقبت قدوم نيفين على أمل في النجاة من جبروت شادي، تذكرت فتون التي نصحتها بألا تثق بنيفين فلقد استمعت لحديثها أمس من خلف الأبواب، قالت لها بقلق تسرب إلى قلبها لكن ليس بيدها حيلة: نيفين مش هتعمل كدا لله ف لله يا حياه، أكيد ليها مصلحة فدا
-وهي هتأذيني ليه؟ .. أنا عمري ما عملتلها حاجه
-ممكن يكون صح وهتهربك بجد .. أنا ما قولتش حاجه .. كل اللي بأقولهولك إنه أكيد ليها مصلحة ف كدا مش هتعملها شفقة وإحسان .. أما بقى تأذيكي ليه ف فيه ناس كتير م الظلم اللي بتشوفه ف حياتها بتحب تطلعه على غيرها مادام ف مصلحتها .. الأحسن لما تخرجي من هنا تقطعي علاقتك بيها نهائي .. حياه أبوس إيدك بلاش الثقة الزيادة دي .. العميان الشديد دا مش هينفع ف دنيتنا !
غيرت مجرى الحديث: طب وإنتي ؟ .. مش هتهربي معانا ؟
ابتسمت ساخرة: عشان تتأكدي إن ليها مصلحة بهروبك عشان كدا قالتلك إنتي بس وما جبتش سيرة قدامي مع إنها عارفه كويس أوي إني كرهت هنا وقرفه
بشفقة: طب ما تيجي معانا
ربتت على كتفها: لا بلاش، كل ما العدد قل كل ما كان أسهل وما نجذبش النظر
التقطت حياه قصاصة ورق وخطت عليها شيئاً ما ثم سلمته لفتون: دا عنوان حنان، واحدة طيبة أووي وساعدتني كتير لما تعرفي تخرجي من هنا روحيلها ولو ماكنتش معاها هي هتدلك على مكاني إتفقنا ؟؟
ابتسمت فتون فلا فائدة من نصحها، من تطبع بشئ صعب عليه تغيير طبعه، دعت لها بقلبها أن تحتفظ ببراءتها لا تعلم لما تشعر أن صفعات الحياة لحياه لن تتوقف عند ذلك الحد.
أفاقت من ذكرياتها على دخول نيفين مشيرة لها بالقدوم برفقتها، حملت مي مي مسرعة فلا وقت لإيقاظها كما أن نومها سيسهل مهمة هروبهم بشكل أسلم.
سارت خلف نيفين التي مشت أمامها بثقة فقد وضعت منوم في المياه المخصصة لرجال الحراسة وشادي لديه عمل ما غير معروف نوعه لكن ما هو أكيد أنه يخالف القانون، تبعت نيفين حتى وصلت إلى الطريق العام وكانت هناك سيارة في إنتظارهما، صعدت خلفها بعد أن أخبرتها أنه أحد الزبائن وقد أحبها مقرراً أخذها والإهتمام بها وليس ببعيد أن يتزوجها،قلبها يشعر بعدم الراحة لكنها تجاوزت حد التراجع، في النهاية ليس هناك ما هو أسوء من تواجدها في مكان يخص شادي.
وصلت لمنطقة يظهر فيها حركة الناس ليست مهجورة بل حية بتحركات السكان والمحلات المضاءة، إلتفتت إليها نيفين قائلة: أنا كدا عملت اللي عليا .. هتنزلي هنا بقى وتشوفي طريقك، شوفي إنتي عايزه تعملي إيه
مدت لها مبلغاً من المال مضيفة: دول يكفوكي تركبي تاكسي يوصلك مكان ما إنتي عايزه
ترجلت من السيارة وهي تودعها لقد فعلت لها الكثير ويكفي حتى هذا الحد، أوقفت إحدى سيارات الأجرة طلبت من سائقها أن يوصلها إلى العنوان الذي أملته عليه.
***
ارتفع رنين الباب، استيقظ جميع أهل الدار فزعاً من الزائر في هذه الساعة، لم تكن سمية نامت سوى ساعتين من الإجهاد النفسي بعد إلحاح أحمد عليها، وحمزه كان يحاول أخذ قسطاً من الراحة ليستطيع متابعة البحث في اليوم التالي.
فتح أحمد الباب مترقباً الطارق، قفزت مي مي من بين ذراعي حياه فقد استيقظت عند توقف سيارة الأجرة أمام المنزل، ضمتها سمية بشوق وانصرف أحمد يتأكد من سلامتها.
التقت نظراتها الخجلى بنظراته العاتبة، أبعد نظره فوراً لكن تلك اللمحة كانت كافيه لتعرف كيف أصبحت في نظره، لقد فقدت مكانتها لديه بالتأكيد عرف حقيقتها؛لأن هذه النظرة ليست من فراغ.
طلب منه والده أن يذهب ليحضر كأساً من الحليب من أجل مي مي فوالدته منشغلة بالإطمئنان عليها وإشباع شوقها.
عاد حمزه يتلفت حوله لكنه وجدها انسحبت بهدوء، تذكر حالتها وملابسها يبدو أنها لم تغيرها منذ تم إختطافها .. أشفق على حالها لكنه أفاق على صوت والدته تدعوه أن يؤكد لها أن ما تعيشه الآن حقيقة وليس وهماً أو مجرد خيال.
***
قررت بعد أكثر من أسبوع قضته في التفكير، ستقبل بعرض والدة طالبة لديها في المدرسة، تسافر إلى إيطاليا تعمل في شركة زوجها .. تتعامل مع العملاء الطليان، تترجم له ما يقولونه فرغم قضاءه خمس سنوات هناك إلا أنه لا يجيد اللغة بشكل كافِ.
اعترضت حنان كثيراً لكنها كتمت اعتراضها، إذا بقيت هنا سيصل إليها شادي من جديد والله وحده يعلم كيف ستنجو منه هذه المرة، ليس لدى حياه من يُدافع عنها عائلتها اعتبرتها كأنها لم تكن،وحمزه تغيرت نظرته لها بعد علمه بقصتها كاملة .. الأفضل لها ترك البلاد وفتح صفحة جديدة في دفتر حياتها.
تساءلت الجدة بحيرة: بس مش غريبة إنه الزفت دا ما حاولش يدورعليها تاني؟ خصوصاً إنها ما غيرتش المكان ؟
تمتمت حياه بخجل: أسفة والله على كل اللي سببته من مشاكل وأنا أول ما أخلص ورقي هأسافر على طول
نهرتها حنان: إيه اللي بتقوليه دا يا حياه .. تيته مش قصدها كدا طبعاً
الجدة بحزن: والله يا بنتي أنا باسأل من خوفي عليكي مش أكتر، دا إن ما شالتكيش الأرض أشيلك فوق دماغي
حنان مؤيدة جدتها: فعلاً، غريبة إنه ما دورش عليكي .. ربنا يستر ويبعد عننا شره أو خيره حتى
***
أمسك حمزه الجريدة يتفحصها أثناء تناوله الإفطار برفقة عائلته، لفتت نظره صورة شخص يعتقد أنه رأه من قبل .. تذكر إنه من خطف حياه ومي مي .. إنه نفس الوجه.
أكمل قراءة الخبر، لقد أوضحت الجريدة أن الشرطة استلمت بلاغاً عن فيلا في إحدى المدن الجديدة يعمل صاحبها في الدعارة بإغواء الفتيات بكلامه المعسول ووعدهن بالزواج والعيشة الهانئة ثم إجبارهن على العمل لحسابه تحت حراسة مشددة، لقد وجدوا فتاة ميتة بداخلها بينما هرب هو لا أحد يعلم أين .. أنتهى الخبر برجاء أي أحد يراه أن يبلغ عنه مباشرة فهو يبيع أعراض الفتيات.
أطلع والديه على المنشور، أمسك أحمد الجريدة يقرأ الخبر على مهل معلقاً: ومين دي اللي ماتت؟ وهو قتلها يعني ؟؟
هز حمزه كتفيه: مش كاتبين تفاصيل .. يمكن لما يوصلوا لحاجه ينشروها
سمية بغيظ: يا ريت نقفل الموضوع دا .. إحنا لسه ف أول اليوم فبلاش تقفلوه من أولها
تساءلت مي مي ببراءة: هي ميس حياه مش هتيجي ؟؟
سمية بعصبية: لا مش هتيجي .. وما تجبيش اسمها هنا تاني .. أنسيها خالص فاهمة ؟؟
شرعت مي مي في البكاء معبرة عن شوقها لحياه وهي تتجه لغرفته مطأطأة الرأس، وجه أحمد حديثه لزوجته: مش كدا يا سمية
-مش عايزه اسمع اسم البنت دي تاني .. مفهوم ؟
أحمد مقترحاً: أنا ف رأيي نقدملها في المدرسة .. أهو الحمدلله بقت بتتكلم وتقدر تتفاعل هناك ومابقاش فيه مشكلة
أومأت مؤيدة: هأشوفلها مدرسة كويسة
اعتذر حمزه منهم لضرورة ذهابه إلى عمله، لا يتحمل أن تتحدث والدته بالسوء عنها، كذلك لا يملك الدفاع عنها .. نظرة الحزن والإنكسار التي رأها في عينيها أخر مرة تجرح قلبه بسكين بارد.
***
خرجت حنان من المدرسة تسلم على أهالي بعض الطلاب الذين تعرفهم، رأت حمزه يقف بعيداً ترددت لكنها حسمت أمرها .. توجهت إليه في حين اعتدل في وقفته عندما أدرك أنها مقبلة عليه.
ابتسمت حنان: مش بتيجي المدرسة
لم يرد فعادت تسأله: مش عايز تعرف السبب ؟
اكتفت بنظرة الإهتمام التي لمعت في عينيه مجيبة لسؤال لم يسأله: حياه هتسافر إيطاليا .. بتجهز نفسها للسفر
قاطعها رنين هاتفها المستمر كأنه يصر على تلقي الإجابة اعتذرت منه تجيب: أيوه يا تيته .. في إيه ؟؟ .. ليه مالها؟ .. هي إتجننت ولا إيه ؟ .. طيب طيب أنا جايه أهو
أغلقت الخط والتوتر يعلم ملامحها، سألها مخفياً قلقه: حصل حاجه ؟
أجابته بينما تعيد الهاتف إلى داخل حقيبة يدها: حياه بتجهز الشنطة مصره تروح لأهلها ف سوهاج .. وأخوها كان مهددها قبل كدا لو راحت هناك هيقتلها .. لكن هي راسها وألف سيف إنها تروح دلوقتي .. معلش أنا لازم أروح أشوف حكايتها إيه
لم يعرف لما قال ذلك ولكنه فعل: أنا جاي معاكي
أومأت موافقة فقد ينجح هو فيما قد تفشل فيه، كان مزيجاً من الغيظ والغيرة يأكل في قلب خليل وهو يراها تسير بصحبة حمزه، لقد كان دائماً على يقين أنه ترك بها أثراً وحباً لن تستطيع إعطاءهما لغيره، غروره الذكوري صور له أنها لن تستطيع متابعة حياتها مع سواه كما فعل هو، لقد أجلت حياتها فعلاً لكن لتهبها لطفلتها المفقودة فحسب.
جذبت طفلة يده تلفت إنتباهه إليها: مش هنروح يا بابا ؟
أومأ متمسكاً بأصابعها الصغيرة عائداً بها إلى المنزل حيث تنتظره زوجته الثانية.
***
أسرعت في إتجاه غرفتها التي تشاركها مع حياه بينما بقى حمزه في الصالة يصل إلى مسامعه الحوار الدائر بالداخل ... كان حواراً حاداً تتحدث فيه حياه بكل حسم وإصرار.
حنان: يا بنتي هتروحي فين دلوقتي .. أخوكي الله أعلم هيعمل فيكي إيه
حياه بعند: مش مهم، يعمل اللي يعمله، هأسافر يعني هأسافر
صرخت بها: وأنا مش هأسيبك تسافري وترمي نفسك ف النار يا حياه !
بادلتها حياه الصرخ بصراخ أكبر، صرخ يصدر من أعماق القلب قبل الصوت: هأسافر يا حنان، أبويا بيموت وأنا السبب، كسرت الراجل اللي كنت بالنسبة له أهم حاجه، الراجل اللي رباني وحبني أكتر من أي حد، كان بيشوفني صاحبته قبل ما أكون بنته، اللي عاملني أحسن من أي حد ف بلدنا بيعامل بنته، عاملني على إني بني أدمه وهما بيعاملوا بناتهم على أنهم غلطات ف حياتهم، مع كل دا أنا كسرته، خليته يمشي بين الناس راسه في الأرض، كأني اثبتلهم إن معاملتهم هي اللي صح وتربيته هي اللي غلط .. ما تعرفيش النار اللي جوايا إيه وأنا بأسمع عياط أختي في التليفون وهي بتقولي أبويا تعبان والدكتور بيقول حالته بتتدهور .. هأروح أشوفه بأي شكل حتى لو فيها موتي
جرت حقيبتها خلفها، توقفت قبل أن تصطدم بجسد حمزه، حجبت الدموع عنها الرؤية، أوقفها سائلاً بقوة: رايحه فين ؟
أجابته بتحدي: ما يخصكش
تحداها بقوله: أي حاجه تخص مراتي تبقى بتخصني بالظبط !
***
توقف الزمن أمام عينيها، تشعر الآن بحال من أماته الله مئة عام ثم أحياه ليجد الحياة تسير من حوله وهو لم يشعر بما حدث، أصبحت تجلس الآن أمام المأذون يعقد قرانها على حمزه بعد أن تولى والده أحمد أمرها وأصبح هو وكيلها، شردت تتذكر سبب ما هي تعيشه الآن .. إنه ما حدث قبل يومان.
لم تصدق أذنيها .. لقد طلب منها الزواج حقاً لكن بطريقة ملتويه، انسحبت الجدة تتعكز على حفيدتها مشيرة لها بضرورة الإنسحاب .. يجب عليهما الجلوس بمفردهما جلسة تملؤها الصراحة والحديث الحر المنفرد.
جلس حمزه وأشار لها بالجلوس، جلست مسلوبة الإرادة غير مصدقة أن من أدركت مؤخراً حبها له تناسى استياءه منها وطلب الزواج بها، لكنها أفاقت على كلماته التي لا تحمل أي لمحة من الرومانسية أو الحب .. فقط نبرة جدية لا غير.
- إنتي عايزه تروحي لأهلك مش كدا ؟
هزت رأسها كتائهة في صحراء جدباء، لما فتح هذا الموضوع وما علاقته بما قال، أجابتها كلماته القادمة لكنها جرحت أنوثتها و .. قلبها.
- لو رجعتي دلوقتي أهلك مش هيسكتوا .. ويمكن أخوكي ينفذ تهديده، لكن لو رجعتي متجوزة ماحدش هيكلمك .. ع الأقل هتلاقي حد تتحامي فيه، وتقدري تقفي قدام عيلتك أقوى من كدا
سألته مبهوتة: وأنت عشان كدا عايز تتجوزني ؟
حمزه ببرود: عشان دا ف مصلحتي ومصلحتك
ضيقت جفنيها قائلة ببطء: مصلحتي وعرفناها .. إنما مصلحتك أنت إيه ؟
- ماما زي ما إنتي عارفه نفسها تجوزني إنهارده قبل بكره .. بكدا هأقدر أريحها، كمان مي مي مضايقه جداً من ساعة ما رجعتيها وما بقتش تشوفك
نظرت له بشك غير مقتنعة بمبرراته: دي مش مبررات كفايه
أضافت بتروي: أنا سألتك مصلحتك أنت إيه .. مش مصلحة غيرك !
صمت قليلاً قبل أن يصارحها: كنت معجب بواحدة واتخطبنا .. لكن بعد كدا اتعرفت على واحد جاهز ومعاه فلوس أكتر فسابتني واختارته
أضاف بعد صمت أخر: دلوقتي أطلقت وعايزنا نرجع لبعض تاني .. متوهمة إني لسه بأحبها وإني عايزها وبأفكر فيها .. جوازي هيثبتلها إني طلعتها من دماغي وفي نفس الوقت تبعد عني
أحست أن كل حرف نطقت به حنجرته كأشواك تغرس داخل قلبها تُدميه حتى الموت، أخذت نفساً عميقاً تُرجع به دمعاتها حتى لا تهطل أمامه: أنا مش موافقة على عرضك دا يا باشمهندس حمزه
طعنته في كبريائه كما في رجولته، رفضت عرضاً كان يعتقد أنها ستطير فرحاً لسماعه، رد بكل تعقل بقى لديه: عايزه تزوري والدك المريض .. هتزوريه لوحدك وتفتحي جروحه وكمان مش بعيد تخسري حياتك .. كدا أحسن ولا ..
صمت ليعطي لكلماته التأثير المرجو، هو يعلم موضع كلماته وطريقة نطقها بنبرة معينة، نطق أخيراً متأكداً من ترقبها: ولا تروحي مع جوزك .. معززه مكرمه .. تمشي في وسط البلد وراسك مرفوعه على عكس ما تروحي لوحدك .. أكيد والدك مهما كان يعني هيبقى همه إنه يطمن عليكي وإنه في حد معاكي بيحافظ عليكي ويصونك عشان لو جراله حاجه لا قدر الله .. أظن هو رفض الأولاني دا عشان كان شاكك ف إنه مش قد المسئولية ومش هيطمن عليكي معاه
نهض ملتقطاً نظارته الشمسية ومفاتيحه من فوق الطاولة: ع العموم أنا هأسيبك تفكري .. معاكي الليل كله وبكره أخد الرد .. عن إذنك
رحل وتخبطت هي في أفكارها، وكزتها حنان في ذراعها لتستفيق، لقد رفع المأذون المحرم معلناً إتمام كتب الكتاب فقد اتفقا أن يكون هذا زواجهما فقط أو بالأصح هي من اقترحت، لقد تمنت أن ترتدي الثوب الأبيض لكن هناك شرط اختل فاختلت معه باقي الموازين .. العريس لا يحبها.
ضمتها الجدة مباركة زواجها، التقت نظراتها التائهة مع نظرات سمية الحانقة، منذ عرفت بقرار ولدها بالزواج من حياه وهي لم تهدأ، حاولت إقناعه بالعدول عن رأيه لكنه لم يستجب، قررت اقتصاصه بعدم الحضور لكن أحمد أصر عليها فهو ولدهما الوحيد وهي التي لطالما تمنت هذه اللحظة فكيف تتخلى عنها مهما كانت شخصية العروس؟؟ .. رغم ذلك لم تنل العروس رضاها خصيصاً عندما شعرت من ثوبها الرمادي المحلى بالخرز الفضي أنها ليست راضية بهذه الزيجة مثلها .. إذاً لما وافقته ؟؟
ابتسمت نجلاء وهي تلثم وجنتيها: ما تعرفيش فرحت قد إيه لما عرفت إنك هتتجوزي حمزه، ربنا يسعدكوا يا رب .. هو دا فعلاً الإنسان اللي هيقدر يصونك
ابتسمت إبتسامة باهتة، اصطحبها حمزه في وقت لاحق إلى منزل والديه حيث تقرر إقامتهما به، دخلت تسبقه إلى غرفته التي لحسن الحظ ملحقه بحمام خاص، تبعها.
- كمان أسبوع أو عشر أيام كدا ونسافر .. فيه مشروع ف إيدي ولازم أخلصه ما ينفعش أسافر وأسيبه
ألقى كلماته الباردة وتركها متجهاً إلى الحمام، جلست على طرف الفراش تفكر .. إنها قبلت الزواج منه لحبها له الذي ملئ خلايا قلبها، تمنت أن تصبح زوجته ولو لفترة محدودة فلم يعد لديها ما تخسره بل كانت ستخسر متعة أن تكون بجوار من تحب، ستحتفظ ببعض ذكرياتها معه تعينها على ما بقى لها.
فور خروجه تناولت من حقيبة ملابسها ما ستقضي به ليلها واتجهت إلى الحمام دون أن تنظر إليه، تخشى رؤية نظرة تجرحها وتدمي قلبها.
بعد فترة خرجت مرتدية حلة نوم طفولية تتشابه كثيراً مع ما ترتديه مي مي، حاول كتم ضحكته مبدياً إنشغاله بمطالعة ملفات تخص عمله، اتجهت إلى الفراش عندما سمعته يقول: نامي على الناحية التانية أنا بأحب أنام ع الناحية دي ...
تدحرجت إلى الجهة الأخرى وتدثرت بالغطاء لتغط في سباتٍ عميق، أجهدها التفكير خلال الأيام الماضية دون أن يترك لها فرصة لأخذ قسط من الراحة، بعدما تأكد من نومها تسلل إلى جوارها يتلمس شعرها للمرة الأولى، لقد كان غجرياً متمرداً ذو كبرياء وأنفة كما هو حالها، تعبر خصلاته عن شخصية صاحبتها، تبسم ثم انزلق داخل الغطاء يشم بقايا رائحتها العالقة في الوسادة حيث وضعت رأسها لثواني، أزكمته الرائحة فراح في النوم.
***
رقدت على فراشها بعد أن هجرها النعاس، حالما توضأت الجدة مرت بحجرتها تطمئن عليها، انضمت إليها وحنان في ملكوت أخر لا تشعر بسواها.
- بتفكري ف حياه مش كدا ؟
هزت رأسها قائلة بشرود: أنا بأفكر ف اللي هيحصلها
إلتفتت تحدق في عيون جدتها تتحدث بثقة: حياه بتحب حمزه، سألتها ف مرة عن شعورها ناحيته بس اتهربت مني بعينيها قبل جوابها .. هي نفسها ما كانتش عايزه تعترف بكدا .. هي قبلت بجوازها منه مش عشان عيلتها لا .. عشان هي عايزه تتجوزه .. أنا عارفاها كويس هي كانت حاطه في دماغها تروحلهم مهما كان اللي هيحصلها إيه .. معقوله بعد كدا تقبل بجوازه من واحد مش بيحبها علشان عيلتها؟ .. ما أظنش
ابتسمت الجدة بخبث: ومين قالك إنه مش بيحبها ؟؟
اتسعت عيني حنان دهشة: قصدك إنه ....
أومأت: زي ما هي بتحبه وبتكابر هو كمان بيعمل كدا .. بس أنا شوفت الحب ف عيونه، أصل بردو بالعقل فيه واحد هيتجوز واحدة عشان خاطر أخته الصغيرة ومامته خصوصاً بعد ما عرف حكايتها؟ .. كمان مامته كان شكلها باين إنها مش طايقه حياه ولا راضية بالجوازه من أصله وجت غصب يبقى إزاي عشان رضاها؟
تجعد وجه حنان بقلق: تفتكري ممكن تعاملها وحش ؟
ربتت على كتفها بحنان: يا بنتي اللي ربنا كاتبه هيكون وبعدين حياه هتعرف تتصرف هي عدت حاجات أصعب من كدا .. بعدين تعالي هنا .. إنتي إمتى هتبطلي تخافي ع الناس وتشيلي همومهم أكتر من نفسك ؟؟ .. مش عارفه أنا لو حصلي حاجه هأسيبك لوحدك إزاي..
ضمتها حنان بقوة ونهرتها: ما تقوليش كدا والله أزعل منك .. دا إنتي اللي بقيالي يا تيته
-لا اللي باقي لك فعلاً هو ربنا .. كل من عليها فانِ
أضافت مازحة لتزيح غيمة الحزن: أوعي يا بت كدا كتمتي نفسي .. هاتأخر ع النوم ومش هأعرف أصحى لصلاة الفجر بسببك !
ضحكت حنان: طيب تصبحي على خير
نبهتها الجدة مغادرة: وإنتي كمان نامي .. عندك مدرسة الصبح .. هو أنا مش هأرتاح من الجملة دي ولا إيه؟؟ ههههههه
تمددت حنان على فراشها مقهقهة، جدتها هي شمس حياتها الضاحكة تنسيها هموم الدنيا بمداعباتها .. أدامها الله فوق رأسها.
***
تقلبت في نومها ثم فتحت عينيها على حمزه الذي يقف أمام المرآة يرتدي ساعته منهياً استعداده للذهاب إلى عمله، راقبته مدعية استغراقها في النوم .. تتمتع برؤيته خفية، ارتسمت إبتسامة صغيرة على شفتيها .. إبتسامة مليئة بالحب والشوق.
إلتفت فجأة ناظراً في عينيها، خجلت منه بشدة ونظرت صوب الأرض، أبتلع إبتسامة أبت الظهور على ثغره، قال مقطباً: أنا نازل .. سلام
نهضت بعد تأكدها من ذهابه واتجهت إلى الحمام تبدل ملابسها وتستعد لما ينتظرها من حماتها المصون.
خرجت لتجدها جالسة وحدها بعد أن ودعت مي مي إلى مدرستها، لقد أقنعتها بضرورة ذهابها إلى مدرستها لأنها أبت المغادرة متحججة بأن حياه يمكن أن تعود لتدريسها، رغبت سمية بإبعاد أي يد لها عن الطفلة حتى لا تضرها مجدداً.
دنت منها باسمة: صباح الخير
لم تعرها أي إنتباه وظلت تقلب في صفحات مجلة بيدها، شعرت حياه بالحرج من تلك المعاملة لم تدرِ ماذا تفعل حتى أتاها صوت مُنجدها من الخلف.
ربت على كتفها بحنان: مالك واقفة كدا ليه؟ .. دي مش مرة أول تنورينا .. أي نعم بصفة جديدة لكن بردو المفروض إنك عارفانا وواخده ع البيت
-معلش أصلي مرتبكة شوية
غمزها باسماً: طب ممكن الجميل يعملي فنجان قهوة ؟؟ .. بقالك كتير ما عملتليش فنجان مظبوط
أومأت بسعادة: من عنيا .. دقايق ويكون جاهز
انطلقت إلى المطبخ سعيدة بمهمتها الصغيرة، جلس إلى جوار يسألها لائماً: ليه كدا يا سمية؟
ادعت الجهل: ليه إيه؟
-يعني مش عارفه
ألقت المجلة بعيداً وقالت بعصبية ملحوظة: مش طيقاها يا أحمد .. حاساها ما تستاهلش ابني
-طب ولو نجلاء اللي حصل فيها كدا ؟ .. كنتي هتحسي بإيه لو حماتها عاملتها بالطريقة دي ف حاجه حصلت غصب عنها ؟
صمتت قليلاً قبل أن تقول مبررة: ما هي كمان مش مفرحه ابني .. في واحد يروح شغله يوم صبحيته بردو إلا لو كان مش طايق وشها ؟؟
-ليه تحملي البنت ذنب مش ذنبها ؟؟ .. إنتي أصلاً عارفه ابنك ما يقدرش يستغنى عن شغله يوم على بعضه .. وبعدين مش الأحسن إنك تساعديهم خصوصاً إنه اللي حصل حصل خلاص؟
قدمت حياه حاملة القهوة تقول بمرح: وعندك أحلى فنجان قهوة لأحلى عمو في الدنيا
ضحك أحمد متناولاً فنجانه: تسلم إيدك .. عن إذنكوا هأروح أشوف الوردات بتوعي اللي ف البلكونة
حلما غادر نهضت سمية تلحق به هي الأخرى لكن يد حياه أوقفتها، همست بصوت يكتم شهقات البكاء: إنتي ليه بتعامليني كدا ؟ .. أنا عملتلك إيه ؟
نفضت سمية ذراعها بقسوة: إنتي عايزه تلبسيني تهمه يا بت إنتي ولا إيه ؟؟ .. أنا عاملتك إزاي إن شاء الله؟
قالت بمرارة: فاكراني مش واخده بالي من نظراتك ليا إمبارح وإنك مش طايقاني ولا راضيه عن جوازي من حمزه ؟؟ .. ولا من معاملتك وإنتي بتبعدي مي مي عني .. كل دا عشان عرفتي حكايتي؟ .. حضرتك كنتي مربية أجيال .. مُدرسة وبعدها ناظرة مدرسة .. لو حصلت مشكلة لطالبة في مدرستك زي اللي حصلتلي يا حاضرة الناظرة كنتي هتعامليها زي ما بتعامليني كدا ؟؟ .. كنت فاكره إنه قلبك كبير وهيستقابلني .. هيعوضني عن حنان ماما –الله يرحمها- هتخديني في حضنك وتطبطبي عليا .. تقوليلي ما يهمكيش أنا جانبك، مامتك ماتت أه بس أنا هنا .. بس يظهر إني كنت غلطانه .. أعذريني على ظني
استدارت تخطو إلى غرفتها أو بالأحرى غرفة حمزة، أوقفها نداء سمية فنظرت إليها بقلق باكية، فتحت سمية ذراعيها وإبتسامة تخترق الدموع المتساقطة على خديها: تعالي .. حضني مفتوحلك دايماً .. زيك زي نجلاء يا حياه
ارتمت بين أحضانها تبكي، تبكي على أمها المتوفاة، على حضن شقيقتها الذي حرمت نفسها منه، على أيام العذاب التي مرت بها، بكت كل ما مرت به حتى الآن.
***
كان قلبها يأكلها على حياه، لقد أصبحت الراعي لها منذ أن التقتها، ذهبت تزورها في منزلها فقد حفظت العنوان بعد زيارتها الأخيرة له.
فتحت لها سمية الباب وابتسمت بوجهها: أهلاً وسهلاً .. إتفضلي
دلفت إلى الداخل معتذرة: معلش جيت من غير معاد .. بس أنا كلمت حياه على موبايلها بيديني مغلق وما أعرفش نمرة البيت هنا وكنت قلقانه عليها جداً
هدأتها سمية وهي تطلب منها الجلوس والاسترخاء: ما تقلقيش .. موبايلها فصل شحن، لسه مكلمه نجلاء وهي معاها وطمنوني
-هي مش هنا؟
- لا خرجت مع نجلاء يتمشوا ويغيروا جو .. بقالها أسبوع في البيت مش بتخرج، أول ما عرفت من حمزه إنها يومين وتسافر لأهلها طارت من الفرحة وقررت نجلاء تاخدها يجيبوا هدوم جديدة .. إزاي عروسة من غير هدوم جديدة يعني؟ .. أصلاً لولا السربعه اللي كانوا فيها أنا كنت جبتلها شئ وشويات
تعجبت حنان لنبرة الحب القافزة من كلماتها منذ متى تحولت من الحماه إلى الأم الحانية، حاولت الإعتذار للمغادرة ولكن سمية تمسكت بها بشدة حتى عودة حياه.
قدمت مي مي في تلك اللحظة تحمل عروستها وتقترب من سمية بحزن، سألتها سمية عما بها، أجابت وهي توشك على البكاء: إيد العروسة فكت
تناولت منها الذراع المفصول عن جسد الدمية في كف والكف الأخر حملت به باقي الجسد، نظرت لها بحيرة وقالت معتذرة: معلش يا مي مي مش بأعرف أصلحها، روحي إلعبي بواحدة تانية
لمحت حنان الحزن يزداد على الوجه الملائكي، مدت كفيها: هاتي أنا هأركبهالك
ركضت مي مي إليها مسرعة بالدمية تناولها إياها بحماس، نهضت سمية ضاحكة: طب عقبال ما تركبيها بقى أكون عملتلنا كوبيتين عصير ف الجو الحر دا .. شكله هيبقى صيف صيف يعني
انتهت من إعادة الدمية لوضعه الأصلي كما لو أنه لم يحدث لها شئ، قالت مازحة: شوفتي أنا جراحة شاطرة إزاي؟ .. عقبالك
ضحكت مي مي: ميرسي يا طنط
داعبت خصلاتها المتناثرة: العفو يا حبيبتي
تحركت حنان دون أن تلحظ الهاتف المحمول الموضع على فخذيها، نسيت أمره تماماً حال حديثها مع سمية بعد أن حاولت إجراء مكالمة أخيرة مع حياه وهي تقف على باب المنزل، مالت مي مي تلتقطه وتعيده إلى حنان عندما تجمدت بسمة الشكر على شفتيها وطغى الفزع على عينيها، لقد تدلت القلادة وظهرت إلى العيان.
ابتلعت ريقها بصعوبة تسأل: هي السلسلة دي بتاعتك ؟
أومأت مي مي بسعادة ممسكة بقلادتها: أيوه .. دا اسمي اللي مكتوب .. حلوة مش كدا ؟؟
دارت الدنيا بها، مصادفه أم شئ أخر، أمن الممكن أن تكون هناك قلادتنا بنفس الشكل تماماً يمروا بعمرها؟، سحبت حقيبتها وغادرت دون نطق حرف.
جاءت سمية تحمل كأسين من الشاي لكنها تفاجأت من غياب حنان، سألت الطفلة عنها فأشارت بأنها لا تعلم: هي فجأة قامت ومشيت ومش قالت حاجه
تعجبت سمية لكنها تجاهلت الموضوع وبدأت تلعب مع مي مي في إنتظار عودة حياه لتخبرها ما حدث وتعرف من صديقتها ما حدث.
تعليقات ومتابعه للمدونه من الصفحه الرئيسيه اضغطي علي متابعه وشكراااااا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق