عن الكاتبة :
سارة محمد سيف .
كاتبة شابة .
من مواليد محافظة الجيزة .
6 نوفمبر 1995 .
طالبة بكلية الطب البيطري بجامعة القاهرة .
مدربة تنمية بشرية بمؤسسة حلم التغيير .
لها عدد من الروايات التى نُشرت الكترونيا :
أصدقائى قنبلة ذرية
انا وانتي يساوي .
رواية كوخ باخر المدينة
رُزقتُ الحلال

سارة محمد سيف
إلى كل من رأى أن خطأه لا يغتفر
وأنه ما عاد هناك طريق للعودة
فلتعلم ..
أنا أبواب التوبة دائماً مفتوحة على مصرعيها
لا تقفل ساعة أو تستريح حيناً
فإذا أدركت خطأك وأين مربطه ..
قاومه .. عالج داءك بيدك وقوتك التي وهبها الله لك
فلتكن حراً من كل قيد وأسر
فلقد خلقت حراً .. فلتعش حراً
لم تخلق عبداً لشهوات .. بإرادتك تروضها حتى تخرج في مكانها ووقتها المناسب.
أنت تملك عقلاً .. يتحكم بعالم كامل
فكيف لا يتحكم في شهوة ؟!
تذكر دائماً أنه لا حول ولا قوة إلا بالله
فكلما شعرت بالضعف فلتطلب القوة من المولى
ستجده وراءك يدفعك للأفضل فمن تقرب منه شبراً تقرب إليه ذراعاً
الظلام الحالك يسود الأجواء، وقد رُفع أذان العشاء منذ ساعات، من المؤكد أن الناس نيام في هذه الأوقات، لإنها إحدى قرى الصعيد، بالتحديد داخل محافظة سوهاج.
المعروف في صعيد مصر وبالأخص بتلك القرية، أن الناس يذهبون إلى أسرتهم بعد صلاة العشاء ليستيقظوا عند الفجر في كامل النشاط؛ مزاولين مهنة الزراعة والحرث التي تُمثل مهنة أغلب القانطين بها أو البعض الأخر فيما يخص الأثار والسياحة.
تسللت فتاة تتشح بالسواد من أخمص قدميها إلى أعلى رأسها، تتلفت حولها بقلق لتتيقن من خلو الطريق ثم أسدلت وشاحها الذي به درجة من الشفافية يسمح لها برؤية موطئ قدميها، أغلقت باب المنزل الداخليخلفها بهدوء، تتوجس إيقاظ حارس البوابة الذي يغط في سبات عميق.
حاولت أن تكتم ضحكاتها على صوت شخيره الذي ينافس صوت صافرة القطار في الإزعاج، تقدمت من البوابة الرئيسية وقبل أن تغادر توقفت لحظات ثم استدارت عائدة إلى الحارس، أسندت خصرها بيدها ولوت شفتيها من أسفل الحجاب قبل أن تبتسم ابتسامة خبيثة تعبر عن نيتها الطفولية، اقتربت منه على مهل رافعة طرف التلحيفة الموجودة حول عنقه ووضعتها على وجهه لتخفي كلا أنفه وفمه، رغم ثقلها إلا إنها بدأت بالإهتزاز إثر تأثير تتابع أنفاسه المصاحب لشخير مرتفع الضجة.
تراجعت مسرعة قبل أن تخونها ضحكاتها فيلتغي الموعد الذي جازفت من أجله في الخروج من منزلها بتلك الساعة.
عبرت البوابة الرئيسية وأغلقتها خلفها بهدوء ولكن تركتها مفتوحة قليلاً حتى تستطيع العبور إلى الداخل مجدداً حين عودتها، وبمجرد خروجها حثت قدميها على المسير بسرعة.
***
فُتح باب الشقة بهدوء وتسلل الظل إلى الداخل على أطراف أصابعه محاولاً عدم إحداث أي ضوضاء أو جلبه قد تتسبب في إيقاظ حرمه المصون من نومها، فإذا حدث وأفاقت من سباتها سيقضي المتبقي من الليل في جدال عقيم ينتهي بغضب كل منهما من الأخر ويجعل حياتهما أكثر تعكيراً.
انتشر الضوء في كل أنحاء الشقة معلناً فشله في التسلل خفية إلى الداخل دون أن تشعر به زوجته، فيبدو أنها كانت جالسة بانتظاره تتوعد له بليلة طويلة من الصراخ .. هذه هي عادتها منذ عدة أشهر، تجعل حياتهم كالجحيم في الأرض.
تنهد بصوت مرتفع يحاول أن يستعد نفسياً لما هو قادم بينما نهضت من مقعدها ووقفت أمامه بملامحها الغاضبة التي تسببت في إختفاء أي أثر لجمالها البديع، فقد تحولت زرقة عينيها الرائقة إلى قطعة جليد يتوعد بالدمار كما جمعت شعرها فوق رأسها مبعثرة بضع خصلاته كأنها تعلن استعدادها لمعركة ضارية.
بدأت الحديث مضيقة بين عينيها: كنت فين يا فادي ؟
أجابها بثبات: ف الشغل
- لحد الساعة إتنين بعد نص الليل ؟
- الشغل عايز كدا أقول لا ؟
- أومال لو كنت موظف ف الشركة مش صاحبها كنت عملت إيه ؟
تنهد صابراً: ما هو عشان أنا صاحبها باتأخر فيها.
تكلمت بسخرية: لما حضرتك تشتغل للساعة دي، يبقى بلاها موظفين أحسن وأشتغل فيها لوحدك.
-نجلاء، اقصري الشر أحسن، أنا جاي تعبان ومافييش خُلق للخناق.
-ومين قال إننا بنتخانق؟ دا بس مجرد كلام، هو أنت لسه شوفت خناق.
-ما أنا بأمهدلك عشان ما تدخليناش في مرحلة الخناق دي .
-طب شّغل واحد معاك تاني .. يشيل من عليك حمل الشغل دا كله ع الأقل يوفرلك ساعتين تلاته راحه.
-أنا مش بآمن لأي حد وبعدين دا شغل مهم ما ينفعش حد غيري يعمله ... عن إذنك بقى أروح ارتاح شوية.
- أه، عشان تنزل من النجمة وأصحى ماالاقكش كالعادة.
زفر بقوة قائلاً بتعب: تصبحي على خير يا نجلاء.
ابتعد عنها متجهاً إلى غرفة النوم لكنها أوقفته بكلماتها الجارحة التي تُذكره دائماً بأنها هي السبب فيما هو فيه الآن: أنا كتير بأندم إني خليت بابا يديك الفلوس اللي فتحت بيها الشركة دي.
استدار إليها نصف إستدارة وحدثها من فوق كتفيه: أول ما الشركة تقف على رجلها ويبقى معايا سيولة هرجع لبابكي كل قرش أداهوني بالفايدة كمان لو تحبي.
ابتسمت ساخرة: وهو أنت فكرك أنك لما ترجعله الفلوس يبقى خلاص مالوش جميل عليك ؟
بدأ الغضب البارد يلتمع في عينيه: ومين قالك إني ناكر للجميل ؟، إنتي اتكلمتي عن الفلوس وأنا بأطمنك أنها هترجعله تاني مش هأكلها عليه يعني.
-أنت عارف كويس إن بابا مش بيفرق معاه الحاجات دي.
ثم تابعت ببطء: مادام أنا مبسوطة.
حدق بها بتركيز متسائلاً: وإنتي مش مبسوطة ؟
عقدت ذراعيها وأدرات ظهرها قائلة بحزن: وهتبسط إزاي يعني وأنت بتجيلي بعد نص الليل وبتمشي الصبح بدري ومش قادرة أقعد معاك ساعة على بعض.
اقترب منها وأمسكها من كتفيها مديراً إياها لتواجهه، قال مبتسماً بحب: طب أنا مش بأشتغل عشان أظبط حياتي أنا وإنتي ؟، عشان تعيشي مرتاحه واللي تطلبيه يجيلك على طول.
وضعت يديها على صدره العريض ونظرت إلى عينيه السود قائلة بدلال: أنا عايزاك أنت مش عايزة أي حاجه تانية.
اتسعت ابتسامته وغمزها: يعني عندك استعداد ما تغيريش عربيتك كل سنة وتبطلي تروحي للكوافير 3 مرات في الأسبوع وما تشتريش كل شهر دولاب هدوم كامل وما تسافريش برا ؟
زمت شفتيها بطريقة جعلته يكتم ضحكته بصعوبة بينما أجابته على استحياء: بص العربية مش مهمه والسفر بردو مش ضروري أوي بس اللبس والكوافير أنا ما أقدرش أعيش من غيرهم .. أنا مش بأعمل حاجه في يومي غير إني أهتم بلبسي وشعري.
أمسك ذقنها بين أصبعيه: يبقى تستحمليني شويه، أظبط الأمور وأثبت رجلي في العالم اللي أنا دخلته دا وبعد كدا هأفضل معاكي لحد ما تزهقي مني.
تنهدت بقلة حيلة: وهو أنا في إيدي حاجه غير إني استحمل واستنى ؟
ضمها إلى صدره حيث أصبحت دقات قلبه تصل إلى مسامعها: أه لو تعرفي بحبك قد إيه .. عمرك ما هتقلقي للدرجة دي .
لفت يديها بقوة حول عنقه وهي تدفن رأسها بين طياتها: أنا بحبك أكتر مما تتخيل، حبي ليك مالوش حدود وهو دا اللي بيخليني هاتجنن عليك، وبخاف عليك من أي واحدة ممكن تاخدك مني.
قبل وجنتها النضرة هامساً: إنتي مافيش منك أصلاً، فيه حد يسيب الأصل وياخد صورة ؟
همست بحنق: فيه ناس بتحب الرمرمه !
ضحك مبعداً إياها عن صدره: وأنا ف نظرك رمرام يا ست نجلاء ؟
هزت كتفيها: مش عارفه بقى
وضع يداً أسفل ركبتيها واليد الأخرى إلتفت حول خصرها ثم قام بحملها متجهاً إلى غرفتهما الخاصة، همس في أذنها هائماً: أنا بقى اللي هأعرفك.
ابتسمت بخجل وقد عقدت ذراعيها خلف عنقه باحكام، هذا حبيبها الذي فضلته على جميع الرجال، فقط من دق قلبها من أجله.
***
طرقت بالهاتف على كفها في قلق، رفع زوجها نظره من فوق أسطر الكتاب المشغول في قراءته متنهداً: أنا نفسي أفهم إنتي بتقلقي نفسك ليه ؟ الراجل بيتأخر ف شغله مش عيب وبنتك بتقلق زيادة عن اللازم
ثم أضاف مازحاً: وحسب اللي أنا شايفه هي مش جايباه من برا
تنهدت: ما أنت سمعت صوت البت كان عامل إزاي، فضلت تعيط لحد لما دموعها نشفت، أكيد في حاجه أكبر من إنه اتأخر عليها
-يعني هيكون في إيه أكتر من كدا ؟
وضحت بهدوء قلق: يمكن يكون عارف واحدة عليها.
اعتدل في جلسته وظهر على ملامحه الغضب: استغفري ربنا يا سمية، إن بعض الظن إثم، الواد ما شوفناش منه العيبة وقمة في الأخلاق، قوليلي حاجه واحدة عملها تخليكي تظني فيه كدا.
أشاحت بيدها حيرة في أمرها: مش عارفه بقى أهو اللي جه ف بالي.
عاد يستغرق في كتابه بعد أن قال لها: اهدي يا سمية وعقلي بنتك بدل ما تشعليليها أكتر، وبعدين إنتي عارفه بنتك أكتر من أي حد تاني، يعني دي تعمل العامله وتقول مش أنا .. فهميها تتعامل إزاي مع جوزها وسيبيهم سوا وياريت ما تتدخليش بأكتر من كدا خليها تعتمد على نفسها، هي هتفضل عيلة لحد امتى ؟، وكمان إحنا مش هنفضلها العمر كله.
أومأت موافقة فكل كلمة قالها زوجها لديه بها كامل الحق، وضعت هاتفها على المنضدة المجاورة وأمسكت بالمصحف تتلو آياته لتهدأ قليلاً ويخف قلقها.
بعد مرور دقائق معدودة، سمعت سمية المفتاح يدور في قفل الباب ويدخل ولدها الأكبر وقد ظهرت عليه ملامح الإعياء.
شهقت بفزع واتجهت إلى ابنها بقلب مفجوع: مالك يا حمزه ؟، وشك مخطوف كدا ليه ؟
حاول أن يرسم ابتسامة وإن كانت باهتة على شفتيه، قال يُطمئن والدته: مافيش حاجه يا ماما، أنا بس ما نمتش من يومين فعشان كدا تعبان.
اقترب الأب مردداً: حمدالله ع السلامة يا ابني
ثم أضاف عندما رأى مظهره: بلاش تتعب نفسك زيادة في الشغل
سمية بحنان: اطلع خد دوش سخن عقبال ما أجهزلك لقمة تاكلها.
حمزه بإرهاق: لا ما تتعبيش نفسك هأنام على طول عشان مسافر الصبح بدري لقنا
سمية بفزع: أنت لحقت ترجع من دمياط عشان تروح قنا !، يا حمزه مش كدا حرام عليك نفسك، ربنا هيحاسبك عليها وعلى اللي بتعمله فيها.
لاحظ الأب إرهاق ولده وعدم قدرته على الحديث فأنهى الحوار: روحي إنتي حضري الأكل عشان ياكل وأنت روح استحمى وتعالى كُل
ثم أضاف بحزم عندما لاحظ بوادر اعتراضهما: اعملوا اللي بأقولكوا عليه من غير مجادلة وكلام كتير
تنهد حمزهثم إتجه إلى غرفته ينفذ أمر والده بينما نظرت سمية إلى زوجها في ألم: هو هيفضل يقتل ف نفسه كدا لحد إمتى ؟
- إدعيله إنتي بس إن ربنا يريح باله ويهدي سره.
- ما أنا بأدعي دايماً بس من ساعة البت اللي ما تتسمى دي وهو حاله اتقلب وبقى بيشتغل كأنه بينتحر، ربنا ينتقم منها
زجرها زوجها: خلاص يا سمية، ما تدعيش على حد كفايه إنك تدعيله هو بس.
تنهدت متجهة إلى المطبخ: حاضر يا أحمد أديني سكت أهو.
عاد أحمد إلى مقعده وتابع قراءة كتابه داعياً لابنه بصلاح الأحوال.
***
وقف أسفل شجرة المانجو الضخمة يفرك يديه ببعضهما ثم يرفعهما بالقرب من فمه لينفث فيهما أنفاسه لعلها تبعث بعض الدفء، رأته من على بعد وهو يسير ذهاباً وإياباً، تبسمت وهي تقترب هامسة: أسفة لو اتأخرت عليك بس عقبال ما عرفت أخرج من البيت واتأكدت إنه الكل نام.
اقترب منها متناسياً برودة الجو وابتسم: ولا يهمك أنا مستعد أقف 100 سنة من غير ما أزهق أو اشتكي المهم إني هأقابلك.
ابتسمت بخجل،حاول أن يرفع الحجاب ليظهر وجهها لكنها نفرت إلى الخلف في فزع، قال مهدئاً: ما تخافيش أنا بس كنت عايز ارفع الطرحة دي عشان أشوف وشك .. ما تعرفيش وحشني قد إيه
تلفتت حولها بقلق ثم رفعت الحجاب مظهرة وجهها الذي أضاء بسبب ضوء القمر المسلط عليه فبدت كحورية قد هبطت من الجنان، رغم أنها من أقصى الصعيد إلا أنها تمتلك بشرة بيضاء ناعمة كالأطفال بسبب قلة تعرضها لضوء الشمس - فمن غير المسموح لها الخروج إلا في أضيق الحدود- عيونها البنية تلألأت نتيجة للحب الممزوج بسحر ضوء القمر كذلك البسمة الناعمة على شفتيها الكرزيتين؛ كل ذلك أضفى عليها سحراً خرافياً.
همس لها ولهاً: وحشتيني
نظرت أرضاً بخجل قائلة بصوت بالكاد سمعه: بس ..، ماينفعش اللي أنت بتقوله دا
ابتسم: طب طمنيني عنك .. أخبارك إيه ؟
هزت كتفيها: عادي زي كل يوم.
أردفت بقلق: أنت طلبت تشوفني هنا وفي الوقت دا عشان تسألني على أخباري ؟
تنهد: لا، بس كنت عايز أقولك إني طلبت إيدك من أبوكي.
لمعت عينيها بسعادة: وإيه اللي حصل ؟
-رفضني .
سألته بحزن: ليه ؟
- عشان يتيم وماعنديش لا أب ولا أم، شغلي مش ثابت يعني إنهارده بأشتغل بس بكره يا عالم.
- بس دي أرزاق بإيد ربنا، وأهلك مالكش يد في موتهم.
-قولي لأبوكي الكلام دا مش ليا أنا.
زفرت بقوة: دا على أساس إني لو قولتله هيغير رأيه يعني.
تابعت وهي تنظر له برجاء: طب وهنعمل إيه دلوقتي ؟
اقترب منها ولكن عندما لاحظ تراجعها تنهد متوقفاً: مافيش غير حل واحد.
سألته بلهفة: وإيه هو ؟
أجابها بلهجة قوية كأنه لا يوجد أمامهما حل أخر: إننا نهرب سوا يا حياه !
***
انهى عشاءه دون أن يشعر بأي مذاق خاص له، كل شيء أصبح بلا طعم منذ اكتشافه حقيقة من أحبها قلبه، تنهد بقوة لقد تسببت في كرهه لجنس النساء بأكمله، لم يعد يثق بأي امرأة سوى والدته .. حتى شقيقته لا يثق بها أيضاً مما يراه يحدث بينها وبين زوجها، يتعجب في كثير من الأحيان من قدرة فادي على تحمله لشقيقته، تلك المدللة التي ما تنفك تذكره بجميل والدها عليه، إذا كان في محله لكان تخلى عنها منذ أمد.
أفاق من أفكاره على صوت دقات خجلى على باب غرفته، اتجه ليفتح الباب فوجد شقيقته الصغرى بملامحها الطفولية التي يشوبها بعض الخوف.
نزل لمستواها وأمسك ذراعيها، ابتسم متسائلاً: إيه اللي مصحيكي لحد دلوقتي يا مي مي ؟
تجمعت الدموع في مقلتيها بغزارة وهي ترفع ذراعيها عالياً لتريه مدى كبر ما رأت عيناها الصغيرتين، فهم أنها رأت ما أفزعها فابتسم بحنان وضمها إلى صدره: ما تخافيش، أنا معاكي.
نظرت إليه بشك ولاحظ هو نظرتها تلك فعقد حاجبيه متسائلاً: إنتي عندك شك إني أقدر أغلب العو وأخليه هو اللي يخاف مني ؟
أومأت مؤيدة لكلماته، أبعدها عنه واقفاً في مكانه واسند جبينه بقبضة يده كعارضين كمال الأجسام أو كما يفعل بعض المصارعين قبل صعودهم لحلبة المصارعة.
نظر إليها وسألها بتحدي: لسه عندك شك بردو ؟
ابتسمت بسعادة وهزت رأسها مخرجة أي شك كان متواجداً بها، حملها بين ذراعيه وتوجه بها إلى خارج الغرفة ولكنها أبت ذلك متشبثة بباب غرفته.
نظر إليها متعجباً سلوكها، تبادلا النظرات قليلاً فأدرك مدى خوفها الذي يشتعل بداخلها جاعلاً إياها ترفض النوم بمفردها، تنهد بثقل: عايزة تنامي جنبي يعني ؟
أومأت بتردد، قبل رأسها ووضعها في سريره ثم اندس إلى جوارها وظل يداعب خصلات شعرها الذهبية حتى غطت في سبات عميق.
بعدما تأكد من استغراقها في النوم اعتدل في نومته عاقداً ذراعيه أسفل رأسه وعينيه تتأملان السقف في شرود، بدأ يتحدث بصوت مرتفع:
- تعرفي إني بأثق فيكي إنتي كمان، يمكن عشان بريئة ولسه الدنيا ما لوثتكيش زي غيرك، يااااااه لو تفضلي بريئة ونضيفه من جوه كدا على طول ... ههههههههه بس دا مش ممكن، مافيش واحدة بريئة في الدنيا دي، كلكوا خاينين ومايهمكوش غير مصلحتكوا.
ارتفع أذان الفجر معلناً اقتراب سطوع شمس يوم جديد، نهض ليتوضأ ويأوي إلى فراشه بعد أداء فرضه حتى يستطيع تحمل تلك المسافة التي تفصل بين القاهرة وقنا بالإضافة إلى بدأه العمل فور وصوله.
***
دلفت حياه إلى غرفتها متنهدة فقد مرت هذه الليلة بسلام دون أن يتم اكتشاف أمرها، ولكن فرحتها لم تدم ...
-كنتي فين يا حياه ؟
شهقت حياهفي فزع: زهرة ؟
نظرت إليها زهرة بحنق: أيوه زهرة، ما جاوبتنيش كنتي فين ؟
تنهدت حياه براحه فالحمدلله أنها شقيقتها زهرة وليست أي شخص أخر، إنها كاتمت أسرارها وصندوق أفعالها، بدأت في نزع الحجاب من فوق رأسها مظهرة شعرها المموج في حركات منتظمة، لقد كان شعرها يشبه شعر أغلب نساء الصعيد.
كررت زهرة سؤالها غاضبة: ما تنطقي، كنتي فين؟
حياه بهدوء ولا مبالاه: كنت بأقابل شادي.
استهجنت زهرة فعلتها وعبرت عن ذلك قائلة: بتقابليه ف ساعة زي دي ؟، دا الفجر أدن، لا دا إنتي أكيد اتجننتي !
لوت حياه شفتيها: اللي يشوف كدا ما يقولش إنك كنتي عايشه سبع سنين في القاهرة وإنك خريجة طب.
ضحكت ساخرة: يعني اللي بتعمليه دا عمايل واحدة خلصت ألسن السنة اللي فاتت؟
-مالها تصرفاتي بقى ؟
-يعني إنتي مش شايفه عمايلك ؟ حد يعمل اللي إنتي عملتيه دا ؟ .. ما فكرتيش لو حد من أهل البلد ولا من إخواتك أو أبوكي شافك هيجرا إيه ؟
إرتمت على المقعد المجاور لها وقالت بحزن: طب كنت أعمل إيه ؟ كان لازم أشوفه.
جلست زهرة على طرف الطاولة أمامها وأجابتها بتعقل: لو عايز يشوفك كان جه لبابا وطلبك منه مش يشوفك بالطريقة دي.
-ما هو طلب يشوفني عشان كدا
-إزاي يعني ؟
-بابا رفض أنه شادي يتجوزني.
سألتها بهدوء: ليه ؟ إيه السبب ؟
أجابتها باستنكار: عشان شادي شغله مش ثابت ومش ف مكان واحد وكل يوم ف بلد شكل، كمان عشان أهله متوفيين.
-إنتي مش ملاحظه إنك بتظلمي بابا ؟ .. إنتي عارفه كويس أوي بابا بيحبنا قد إيه ومستعد يعمل المستحيل عشان سعادتنا، كفايه إنه خاطر وخلانا نروح الجامعة ف القاهره وهو كان استحاله يخلينا نبات ليلة واحدة برا البيت حتى لو كان عند حد من أعمامنا.
-طب ليه ؟ ليه مش عايزني أتجوز شادي ... أنا بأحبه يا زهرة.
-وبابا يعرف منين إنك بتحبيه ؟
-يعني تفتكري أقوله ؟
-لا طبعاً ! إنتي اتجننتي ؟ .. مهما كان تحضر بابا بس ف الحاجات دي هيفضل صعيدي.
-يووووه بقى، حيرتيني معاكي !
-طب إنتي وشادي بيه وصلتوا لإيه في الكلام ؟
ترددت حياه في أن تخبر شقيقتها الكبرى عن عرض شادي ولكنها حزمت أمرها بالنهاية وأطلعتها: عايزنا نهرب سوا.
انتفضت زهرة صارخة: نعم ياختي ؟
لحقت بها حياه ووضعت يدها على فم شقيقتها متوسلة بصوت هامس: أبوس إيديك وطي صوتك.
تمالكت زهرة نفسها وأزاحت يدها: وإنتي قولتيله إيه ؟
- قولتله مش هينفع، ما اقدرش أعمل كدا مع أهلي.
-ومالك بتقوليها وإنتي زعلانه كدا ؟ .. ما دا الصح واللي المفروض يتقال.
-ما هو زعل مني وافتكر إني مش باحبه وإني مع بابا ف رفضه ليه.
-خلاص هو حر ف تفكيره، أصلاً واحد بالتفكير دا وبعد عرضه ليكي أنكوا تهربوا سوا يبقى ما يستاهلش ومش بيحبك أساسا.ً
استنكرت حياه غاضبة: هو عشان عايز يتجوزني بأي شكل يبقى ما بيحبنيش ؟
ربتت على كتفها مهدئه: لا، عشان مش عايز يتعب ولا يواجه عشانك، لو بيحبك فعلاً هيبقى عايز ياخدك في النور وقدام كل الناس، هيحارب عشان يوصلك مهما كان التمن .. بس هو اختار الطريق السهل، بس سهل ليه هو ونسي إنه بكدا بيسوء سمعتك وهيضر عيلتنا والله أعلم ممكن يعمل إيه ف بابا ..
-بس هو بإيده إيه يعمله يعني ؟
- بسيطة، يسيب الشغل اللي مش ثابت دا ويشوف شغلانه ثابتة وقتها بابا مش هيعترض.
- طب وأهله؟، يستعير أهل مثلاً ؟
- لا يا ستي مش هتوصل لدرجة الإستعارة، هو بابا قصده بس إنه مالوش كبير يتكلم معاه يعني مين اللي هيتفق معاه ف أمور الجواز والذي منه.
-هو يعني صغير ؟
-ماحدش قال إنه صغير بس هي الأصول كدا، وبعدين لما تحصل بينك وبينه مشكلة المفروض يبقاله كبير يتكلم بابا معاه وقتها، حد يعرف يجبلك حقك منه.
- لا إن شاء الله مش هنحتاج حد، ومش هنزعل من بعض.
ابتسمت شقيقتها بحنان: إنتي طيبة أوي يا حياه.
شردت بعيداً وهي تتحدث كأنها تحادث نفسها: اسمك مش لايق عليكي، بريئة وطيبة أوي عكس الحياه اللي مليانه شر وكره وبلاوي.
افاقت إلى نفسها وتابعت بجدية: الجواز مش كله عسل وحب زي ما إنتي فاكره، إنتي نسيتي ماما الله يرحمها وخناقها مع بابا كل فترة ؟ .. أهو بابا أطيب وأحن راجل في الدنيا وكان بيتخانق مع ماما اللي مافيش ست متفهمة زيها .. فما بالك إنتي الطايشة المتهورة وسي شادي بتاعك دا !
عقدت ذراعيها بضيق: قصدك إيه يعني بالكلام دا يا ست زهرة ؟
ضحكت زهرة ضحكة خافتة: قصدي أقولك إنه الحياه مش وردي زي ما إنتي فاكره
نظرت زهرة إلى الساعة المعلقه على حائط الغرفة الزهري: يلا روحي صلي الفجر والحقيه بقى، أنا كنت جايه أصلاً عشان أصحيكي تصلي
لثمت وجنتها بحب واحترام: ربنا يخليكي ليا يا زوزو
ضحكت زهرة: ماشي يا بكاشه ..أوعي خليني أروح أحضر الفطار.
- ماشي، هاصلي وأجي أساعدك.
- طيب يا ستي كتر خيرك.
كادت أن تغلق الباب خلفها عندما إلتفتت إلى حياه كأنها تذكرت شيئاً: حياه..
انهت لف حجابها استعداداً للصلاة ثم وجهت نظراتها إلى زهرة: نعم ؟
رفعت سبابتها محذرة: أوعي تفكري تسمعي كلامه والأحسن ابعدي عنه خالص .. أنا ماكنتش بارتاحله بس بعد اللي قاله دا أن مابقتش أطيقه.
أضافت غامزة قبل أن تغلق باب الغرفة خلفها: ماتنسيش اللي بيحب بجد مش بيفكر حتى يأذي اللي بيحبه ... واقتراحه دا لو عملتي بيه هيدمرك مش هيأذيكي بس! .. خلي الكلام دا حلقة ف ودنك.
شردت حياه حزينة، هي لم تحب غيره ويبدو أنها ستحرم منه، قررت أن تنفض هذه الأفكار خارج رأسها وقد صفت ذهنها ووقفت في خشوع بين يدي الله، فدائماً كانت زهرة تخبرها أن قلوبنا بيده وأرواحنا ملك له لذلك هو وحده القادر على إزالة همومنا وإرسال الراحة إلى بالنا.
***
جلست قرفصاء على سجادة الصلاة بعد إنتهاءها من صلاة الفجر تحمل بين يديها كتاب الله تتلو آياته بصوت ترهف له القلوب، مظهرة روعة كلماته التي تجعل القلب يدق إما شوقاً لذلك النعيم المذكور والوصف البديع لجنة الصابرين المتقين أو رهبة وخوفاً من عذاب النار.
ظلت على هذا الوضع حتى أشرقت الشمس، أغلقت مصحفها مصدقه ونهضت تؤدي ركعتي الشروق.
بعد تسلميها رفعت يديها ابتهالاً لربها تقول بقلب خاشع ونفس مكلومة ولكنها راضية: يا رب، يا رب، أنا عارفه أنه كل اللي بيحصل معايا دا قدري ومشيئتك وأنا ما اعترضتش ولا هاعترض ف يوم، أنا عارفه أنه "لو علمتم الغيب لأخترتم الواقع"، كل حاجه بتحصلنا مكتوبة ودا قدرنا، كل حاجه بسبب ولسبب، يا رب أنا على طول باترجاك ترجعلي بنتي، بنتي اللي ما شوفتهاش من خمس سنين، اللي مش عارفه ليها مكان ولا عارفه عنها حال، بس أنا متأكده إنك مش ناسيني ولا ناسيها، يا رب أحميها وأحفظها، وقفلها ولاد الحلال وأبعد عنها ولاد الحرام، خليها تكون قريبة منك تحكيلك وتفضفضلك، احفظها من كل سوء وكل شر.
توقفت أخر كلماتها على طرف لسانها فقد لجمتها عن الخروج تلك الدموع اللؤلؤية التي بدأت في الهطول؛ ليس اعتراضاً ولكن حزناً لذكرى ما حدث منذ خمس سنوات عندما فقدت ابنتها.
دار مقبض الباب ليسمح بدخول سيدة قد بلغ منها الكبر عتياً وترك الزمن بمشاكله ومصاعبه أثره على ملامح وجهها ليخفي شبابها الذي كان في يوم من الأيام وترك محله تجاعيد وحزن تشفق عليه النفوس.
-بتعيطي ليه بس يا حنان ؟
مسحت حنان دموعه ورسمت بسمة على ثغرها: مافيش يا تيته، تحبي تفطري جبنة قريش لوحدها ولا أحطلك عليها زعتر زي كل يوم ؟
تابعت ناهضة تطوي سجادة الصلاة: ما تنسيش تاخدي الدوا بتاعك عقبال ما أجهز الفطار.
تنهدت الجدة وهي ترى حفيدتها تتجه إلى المطبخ، برغم ما حدث وما يحدث معها ما تزال كما هي، لم تقهرها الدنيا ولم تُركعها صدمات الحياة، وما يدل ذلك إلا على حسن تربية ابنتها الحبيبة لتلك الفتاة.
تلاشت ابتسامتها التي ظهرت عند تذكرها لابنتها المتوفاة، لقد ظنت أنها وحيدة وقت وفاة ابنتها قبل سبعة عشر عاماً شعرت وقتها بالقهر والحزن، اعتقدت لفترة أنها اغضبت الله في شيء ما، اقترفت ما تسبب بحرمانها من ابنتها الوحيدة، لكنها فجأه أدركت أن الله لم يتركها وحدها تعافر في هذه الحياة بل مد عمرها لتبقى سنداً لحفيدتها حنان.
كانت حنان في المرحلة الثانوية عندما فقدت والديها معاً في حادث غرق العبارة أثناء عودتهما من العمرة، قبلها رفضت حنان أن يؤجل والداها تلك الفريضة من أجل امتحانات الثانوية العامة التي تصادفت أن تكون في نفس الموعد، ظلت تحوم وتدور خلفهما تحاول اقناعهما حتى اقتنعا بالنهاية ورضيا بما شاءت، رفض الطبيب سفر الجدة لأي سبب فجاء ذلك راحة لوالدة حنان "فاتن"، فسوف يكون هناك من يهتم بحنان خلال سفرها.
لكن شاء الله وأمره نافذ أن تغرق العبارة التي كانت تحمل فاتن وزوجها أثناء طريق العودة، أحست وقتها بأن الدنيا قد أنهرت ولن تعود كما كانت، أصابتها نوبة قلبية عند سماعها الخبر المفجع.
لمع في ذهنها ثبات حنان وقتها، كانت تبكي بهدوء دون أن تصرخ أو تعترض حينها حسدتها على ثباتها وفي الوقت ذاته خافت عليها أن تكون الصدمة سبباً في وقوعها أسيرة المرض.
بعد مرور أيام العزاء، استيقظت ليلاً لتتناول الدواء عندما سمعت صوت يخرج من الحجرة التي تقطنها حنان.
اقتربت بهدوء ونظرت عبر فتحة الباب الذي لم يكن موصداً، وجدتها تجلس كما رأتها قبل لحظات ، تفترش سجادة الصلاة وبين كفيها المصحف تتلو آياته بصوتها العذب.
دخلت إليها متسائلة: إيه اللي مسهرك لحد دلوقتي يا حنان ؟
- صدق الله العظيم .. مافيش يا تيته بأصلي قيام وقولت اقرأ قرآن وادعي لبابا وماما بالرحمة
-تعيشي وتفتكري يا حبيبتي
جلست بجانبها أرضاً وتابعت: إنتي بتكتمي جواكي ليه ؟ .. أنا عارفه إن موتهم صعب عليكي ومش عليكي لوحدك عليا أنا كمان بس طلعي اللي جواكي دا بأي شكل كسري أو صرخي .. أي حاجه بس بلاش اللي إنتي عاملاه ف نفسك دا!
- طب دا هيفيدهم بإيه ؟، مش لما ادعيلهم هيبقى أحسن ؟ .. عارفه يا تيته .. ف مرة سمعت شيخ ف خطبة الجمعة بيتكلم عن تصرفات الناس بعد موت ناس عزيزة على قلبهم، وقتها قال إن الدموع والعياط دا بيفيدنا إحنا عشان بيطلع اللي جوانا بس هما هيستفادوا إيه ؟، مش لو دعينالهم أو عملنا صدقة جارية باسمهم أحسن ؟، كمان قال إنه الصويت وحالة الضياع اللي بتحصل لبعض الناس دي وخصوصاً من ولادهم دا بيكون سبب في عذابهم لإنه بكدا هما ما فهموش ولادهم معنى الموت وإنه لكل أجل كتاب .. وأنا مش عايزة أكون سبب في عذابهم.
أكملت بتأثر: ماما كانت بتسمع معايا الخطبة دي وخلتني أوعدها إن لو حصلهم حاجه ما أعملش كدا وإني ادعيلهم كتير ويفضلوا على لساني ف كل دعاء.
خجلت الجدة من نفسها؛ حفيدتها التي تعتبر طفلة تتصرف هكذا أما هي فشعرت بأن الدنيا قد انتهت ولن تستمر مجدداً.
ربتت على كتفها سألتها بتردد: إنتي حاسه بالذنب إنك إنتي اللي أصريتي عليهم إنهم يسافروا ؟
أطرقت حنان قبل أن تقول بهدوء: أنا كنت حاسه بكدا ف الأول بس لما ماما جاتلي ف الحلم إحساسي دا راح
بتعجب استفسرت: شوفتيها ف الحلم ؟
- أيوه، جات وقالتلي إني ما أزعلش وما أحسش بالذنب .. بالعكس إني المفروض أفرح لإني كنت السبب ف إنهم ماتوا بعد العمرة بعد ما غسلوا نفسهم من الذنوب وماتوا قبل ما يرجعوا يعملوا ذنوب تاني، قالتلي إنهم كانوا هيموتوا ف المعاد دا مهما اختلفت الطريقة، وإنها تموت بعد العمرة أحسن ما تموت وه في سريرها وذنوبها لسه على كتافها.
أفاقت على الواقع حين نادتها حنان لتتناول فطورها، اتجهت إلى مائدة الطعام وهي تبتسم، لقد كانت حنان نعمة فاتن من بعد الله -عز وجل- إليها، عادت لوعيها وإدراكها ما تملك في مقابل ما خسرت، خسرت ابنتها ولكن عوضت بحفيدة بارة بها تحبها أشد الحب .. فالحمد لك يا الله كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
***
لحقت حياه بأختها في المطبخ، زهرة بالنسبة لها والدتها التي فقدتها منذ سنوات والأخت التي تحب مداعباتها والجدال معها بالإضافة إلى الصديقة التي تحمل أسرارها، إنها شقيقتها الكبرى ولكن لم تفكر في فارق السن بينهما فقد كانت دائماً كأنها توأمها.
طلبت منها زهرة بينما تقوم بتقطيع الخضراوات أن تذهب لتتأكد من استيقاظ الجميع بداية من والدهم وصولاً لأصغر أشقائهم.
همت بصعود الدرج عندما وجدت والدها يهبطه على مهل، ركضت في إتجاهه وقبلت وجنتيه باسمة: صباح الخير يا أحلى بابا
ابتسم الأب بحنو: صباح النور يا حياه، أومال فين إخواتك ؟
- زهرة فالمطبخ بتحضر الفطار وأنا هاطلع أصحي الباقيين.
-طيب يلا روحي صحيهم بسرعة عشان ورايا شغل كتير.
- من عنيا، أنت تأمر بس يا روقه وأنا عليا أنفذ.
ضحك قائلاً: إيه روقه دي يا بنت ؟، هو أنا من سنك ؟
تأبطت ذراعه وهبطت معه الدرجات المتبقية قالت بجدية: أنا أخاف أمشي معاك ف الشارع يفتكروك خطيبي يا روقه وتقطع نصيبي.
سحب ذراعه منها قائلاً بصرامه: روحي صحي إخواتك.
رفعت كفها في تحيه عسكرية وقالت بإقتضاب مصطنع: علم وسينفذ.
انطلقت تصعد الدرجات بسرعة، ابتسم والدها بعد انصرافها لكنها تلاشت عند تذكره من طلب يدها قبل يوم.
حدثت نفسها بصوت هامس أثناء صعودها: مش معقولة هأكلم بابا بزعل، أي نعم هو رفض إني أتجوز اللي بأحبه بس هو مايعرفش إني بأحبه، وبعدين لسه قدامنا فرص كتير مش من أول مرة هأزهق، كمان لو بابا عرف إني عايزاه ما أعتقدش هيرفض يعني دا بيحبني أوي وعايزني سعيدة بأي شكل .. يوووه بقى ربنا يستر ولساني ما يتسحبش من مكانه ويخليني أقول لبابا كلمة تزعله .. وهو اللي عمره ما زعلني قبل كدا! .. بس بقى بس، لما أروح أشوف الناس اللي نايمه دي وأنا اللي مانمتش ساعتين على بعض .. إهئ إهئ .. أنا بايني أتجننت ولا إيه ؟؟ هههه
دفعت الباب على نحو مفاجئ وصرخت سائلة: ظبطك بالجرم المشهود، بتعمل إيه عندك يا عم أنس ؟؟
انتفض أنس على إثر الصدمة وعندما رأها هتف بغضب: يا بنتي إنتي مش هتبطلي الأسلوب بتاعك دا ؟؟
وضعت يديها في خصرها: بنتك والأسلوب بتاعي ؟ .. أنت مش شايف إنك خدت عليا أوي يا سي أنس ولا إيه ؟
- أووووف بقى، إنتي إيه اللي جابك ؟
- جيت أقولك إن الفطار جاهز
عاد يجلس أمام حاسوبه قائلاً بعدم اهتمام: طيب طيب، روحي وأنا جاي وراكي.
علقت مستهزئه: أه، على العشا مش كدا ؟
قال بملل وهو يضرب على لوحة المفاتيح كاتباً بضعة كلمات: يا ستي قولت جاي.
اقتربت منه بهدوء وبدأت تقرأ ما كتبه من فوق أكتافه دون أن يشعر بها ظناً منه أنها غادرت الغرفة وأخيراً.
هتفت بصدمة: أنت بتحب يا أنس !
ارتعشت يديها الممسكة بالفارة وأغلق الصفحة التي كان يجري بها الدردشة بسرعة لكن ظهره ظل في مقابل وجه شقيقته.
أدارته ناحيتها وجلست على طرف الفراش تسأله بهدوء: مين دي ؟
لعلمه عن إصرار أخته وأنها لن تتركه حتى تعلم الحكاية بتفاصيلها وأيضاً خوفاً من إخبارها لوالدهما تحدث ببطء ونظره لا يتزحزح عن حذاءه المنزلي: واحدة.
- ما أنا عارفه إنها واحدة، حد قالك إني فاكراها واحد ؟، قصدي عرفتها إزاي .. اسمها إيه .. تعرفها منين؟
-اسمها داليا وعرفتها من النت .
-من النت ؟ إزاي يعني ؟
- عادي، اتعرفت عليها من الفيس، شوفتها ف جروب وكانت تعليقاتها وكلامها بيعجبني، حسيت تفكيرها نفس تفكيري بعتلها أدد وهي قبلته وبدأنا نتعرف على بعض.
-إممممم ... قولتلي.
وبعد صمت لثواني معدودة مرت على أنس كالسنوات، سألته: دي عندها كام سنة بقى ؟
تردد قليلاً قبل أن يقول باستسلام: 40.
-نعم ؟؟؟؟
لوى شفتيه وقال هازئاً: أنا عارف إنك مش هتفهميني.
-دي قد عمرك أربع مرات يا ابني، أفهم إيه بس ؟؟؟
توقفا عن الكلام عندما سمعت والدها يطلب منهم الإسراع حتى لا يتأخر عن عمله، نهضت من مكانها وأمرت أخيها: روح صحي محمود وأنا هاروح أشوف عصام
تبعها للخارج وقبل أن تتركه لترى شقيقها الأخر نظرت إليه متوعدة: وهنتكلم في الموضوع دا تاني بس لما نبقى لوحدنا
ابتعدت عنه، وجدت شقيقها عصام يقوم بفرز بعض الأوراق على الأرض، أخبرته أن موعد الإفطار قد حان فترك ما بيده ونزل بصحبتها.
سألته بصوت يشوبه الحزن أثناء نزولهما الدرج: لسه مصمم تسافر ؟
ابتسم ولكن إذا تم اعتبارها ابتسامة من الأصل: فات الكتير ما بقى إلا القليل .. كلها كام شهر وأخد الدكتوراه وأجي أقعد على قلبكوا بعد كدا
-يعني دي أخر مرة تسافر فيها؟
-قولي يا رب
-أنت بتوحشني أوي يا عصام
ضمها إلى صدره: وإنتي بتوحشيني أكتر، بس هانت إن شاء الله
أبعدها رافعاً نظارته الطبية ويفرك عينيه ليمحو الدموع المتجمعة بداخلها: بس بقى، عجبك كدا ؟، هتخليني أعيط والحاج يفتحلي موال.
مرت من أمامهما زهرة وهي تحمل طبقاً في يدها: حياه روحي هاتي طبق العيش والمخلل من المطبخ وأنت يا عصام يلا بسرعة بابا مستعجل.
عصام: طيب، أديني رايح أهو.
***
عندما لم يجدها تنام إلى جواره نهض يبحث عنها ، كانت تضع الطعام فوق المائدة وهي تتحدث إلى نفسها بصوت هامس لم يكد يتبين فحواه.
أخذ يقلب كفيه: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنتي اتجننتي يا سمية ؟، بتكلمي نفسك ع الصبح كدا ليه ؟
ضغطت على أسنانها: وهو أنا طول ما ورايا ابنك وبنتك دول هارتاح أبداً، ما أنا لازم أتجنن.
أمسك كفها وأجلسها على الأريكة جالساً بجوارها: إيه اللي حصل ؟
تنهدت: صحيت لاقيت حمزه مش ف أوضته ولا البيت كله ومي مي نايمة على سريره .. اتصلت بنجلاء مش بترد وقلقانه عليها
-نفسي أعرف إنتي غاويه تقلقي نفسك ليه ؟، إحنا جوزناها عشان نقلق عليها أكتر م الأول ؟
- أنت ما كنتش شايف حالتها إمبارح كانت إزاي؟
- أيوه، بس مش يمكن تكون كلمت جوزها وعرف يهديها والموضوع اتقفل؟، هي بتكلمك عشان تفضفض عن اللي جواها لكن مادام المشكلة اتحلت تكلمك ليه؟
- عشان تطمني ع الأقل.
- يمكن نايمة، ما إنتي عارفاها بتنام لحد الضهر ويادوب الساعة لسه 7
- معاك حق، طب والبيه التاني ؟
-ما هو قالك إنه هيسافر بدري.
-كدا حتى من غير فطار ؟
- هو أصلاً واكل متأخر، لو جاع هيجيب حاجه ياكلها ابنك عنده 30 سنة يعني مش عيل صغير.
-مالحقتش أشبع منه.
- شغله وظروفه كدا، إدعيله إنتي بس.
- هو بس لو يلاقي بنت حلال كدا وتدخل قلبه أكيد هيرجع يستقر تاني بدل ما هو كل يومين ف بلد شكل كدا
- إن شاء الله هيلاقيها، بس لما يجي الأوان المناسب.
ثم أضاف مازحاً: وبعدين مش كفايه عليكي أنا ومي مي ؟ .. دا أنا هاموت من الجوع، يلا بقى كملي الفطار بقى عشان هفتـــــــان .
- ههههههههههههه طب اقرأ الجورنان عقبال ما أخلص.
***
اجتمعت العائلة حول مائدة الإفطار ولكنها لم تكن مائدة السفرة بل "طبلية" الطاولة المعتادة في الريف والصعيد، توجد أثنتان ملتصقتان منها حتى تستوعبهم جميعاً.
تنهد أنس بملل: أنا نفسي أفهم أنت ليه يا بابا بتحب تقعد ع الطبلية مالها تربيزة السفرة يعني؟، ع الأقل نبقى قاعدين مرتاحين بدل ما إحنا مزنقين ف بعض كدا
فاروق: يا ابني مافيش أحلى م اللمه دي، أيام ما كنت عايش ف القاهرة عرفت قيمة الطبلية ولمت العيله دي وأنت مسيرك تحسها ف يوم من الأيام.
محمود: معلش يا بابا سيبك منه دا عيل وما يفهمش حاجه، ربنا يهديه.
أنس بغضب: مين دا اللي عيل يا سي محمود ؟
وضعت حياه قطعة جزر في فمه قائلة بنبرة تحذيرية: أنت تخرس خالص.
نظر أنس في الطعام الذي أمامه صامتاً، تسأل فاروق: أومال فين عيشه يا محمود ؟
محمود: تلاقيها مع الولاد، صحيوا من تلاته الفجر وما ناموش لحد دلوقتي.
فاروق: ربنا يكون في عونها حاكم العيال مش سهلة فما بالك بقى بتوأم.
حياه ضاحكة: ومش أي توأم يا بابا، دول محمد ومصطفى، يعني الشقاوة كلها
أقبلت عليهم عائشة متخذة مكانها إلى جوار زوجها: صباح الخير.
ردد الجميع: صباح النور.
ثم أضاف فاروق: ناموا ولا لسه ؟
تنهدت بتعب: أخيراً يا بابا، دول طلعوا عيني واحد ينام التاني يصحى لحد لما بجاش فيا حيل وهأموت من النُعاس.
فاروق لائماً: ما إنتي اللي مش راضية تخلي حد ياخد باله منهم معاكي، يعني معاكي بنتين ف البيت ومش مخلياهم يساعدوكي.
عائشة: أنا باحب أخد بالي من ولادي بنفسي، كنت فاكرة الموضوع هيبجى سهل بس شكلي إكده هأرچع ف كلامي ههههههه.
محمود مقهقهاً: ما كان م الأول، لازم تعذبي نفسك يعني ؟
عائشة وهي تحاول فتح عينيها بصعوبة: بقالي كام يوم مش بأنام إلا ساعتين بس لحد ما خلاااص حاسه أنه هيچرالي حاچه.
أسرعت حياه: بعد الشر عليكي يا عيوشه، بصي سلمى هتجيلي إنهارده هأخليها تاخد واحد وأنا أخد واحد ونريحك منهم شوية، وإنتي روحي ناميلك كام ساعة، إيه رأيك ؟
عائشة بفرحة: حبيبتي يا حياه، ربنا يخليكي ليا .
زهرة: إيه وأنا ماليش ف الحب جانب ولا إيه ؟
محمود بحب: دا إنتي الحب كله، دا كفايه إنك شايله البيت على كتافك.
نزع عصام نظارته الطبية وهو يدعي محو دمعة خيالية: ترى اتأثرت لحظة أبكي.
وكزته زهرة في ذراعه: أنا اللي هأخليك تبكي بجد.
عصام مقهقهاً: خلاص خلاص حرمت يا سيادة الريس.
حياه: ألا صحيح يا عصام ... هو أخبار خديجة إيه ؟
تنهد بقوة وظهر الحزن على ملامحه: ربنا يستر ... مضايقه مني.
فاروق بقلق: خير يا ابني ؟
عصام الدين: أبداً يا حاج، عشان موضوع السفر ودراستي بره.
محمود: هانت كلها كام شهر وترجعلنا بالسلامة وماعدتش متعتع من هنا تاني.
زهرة: ما تقلقش يا عصام، أنا هابقى أروح أزورها وأتكلم معها، ما تشلش أنت هم.
قبل عصام يد أخته: ربنا يخليكي ليا يا أحلى أخت في الدنيا
قطع تلك اللحظات العاطفية الحديث الذي دار بين حياه وأنس.
أنس: سيبيها
حياه مخرجة لسانها: لا مش هأسيبها .. سيبها أنت.
أنس بعند: لا هتسبيها
فاروق متعجباً: في إيه منك ليها ؟
حياه بنبرة طفولية وهي مقطبة الجبين: مش عايز يسيبلي أخر بططساية ف الطبق يا بابا !
أنس: ما إنتي اللي خلصتي البطاطس كلها أصلاً، مستكترة عليا بططسايه
حياه باستفزاز: ما هو كان قدامك حد كان قالك ما تاكلش، أما عجيبة
أنس: هو إنتي حد يقدر عليكي ف الأكل، دا إحنا قربنا نعيش في مجاعة بسببك
حياه: سيب البططساية يا أنس أحسنلك
ثم أضافت ببطء وهي تغمزه بعينيها: ولا أقوووول وأنت عارف هيحصل إيه لو قولت
خشى أنس أن تفضح سره أمام والده وأشقاءه فسحب يده في خوف، تناولتها حياه أخيراً وبدأت تأكلها باستمتاع حقيقي وكأنها أجمل قطعة بطاطس في العالم، مستلذة بإغاظته أكثر من طعمها.
تسأل عصام مستغرباً انسحاب أنس بتلك الطريقة: هو إيه اللي أنس خايف تقوليه ؟
توتر أنس بشدة ولكن حياه غمزته قائلة بلا مباله: أبداً، أصل قبل كدا أخدت منه أخر تفاحة بردو ... بس بطريقتي الخاصة، وهو ما كانش عايز حد يعرف
ضحك الجميع على سلوكهما الطفولي، حياه في الثالثة والعشرين من العمر ومع ذلك تتصرف كطفلة في عقدها الثالث فقط، ومع ذلك تبقى هي قطعة من قلب كل واحد منهم.
ظلوا يتناوشون سوياً، يضحكون ملئ أفواههم والفرحة تعشش فوقهم.
ابتسم فاروق بسعادة فهذه هي عائلته التي سعى هو وزوجته -رحمها الله- إلى تأسيسها وجعلها يداً واحدة لا تفترق، نقل نظره بينهم في فخر، لقد أحسن تربيتهم وزرع في قلوبهم الأخلاق الحميدة، كان الدعاء الوحيد الذي يصر عليه في كل الأوقات وأثناء صلاته أن يبعد عنهم الشيطان ويظلوا متحدين دوماً.
استيقظت حوالي الساعة الحادية عشر والربع، تحسست النصف الأخر من السرير الذي يحتله زوجها لكنها لم تجده كما أن المكان بارد يدل على نهوضه منذ زمن.
تمطأت بشدة وهي تنهض من السرير بكسل، اتجهت إلى طاولة التزينة وجلست أمامها تعيد ترتيب شعرها، لاحظت تورم بسيط في شفتيها مما جعلها تتذكر ما حدث بينها وبين زوجها الليلة الماضية.
ابتسمت بسعادة، ففادي هو حب عمرها ولكن في الفترة الأخيرة بدأت تشك في تصرفاته نتيجة ما اكتشفاه منذ عدة شهور، بعد زواج لم يدم أكثر من ثلاث سنوات لم يرزقهما الله خلالهم بأطفال؛ اتجهت نجلاء إلى الأطباء لتكتشف أنه ليس باستطاعتها الإنجاب ... على الأقل خلال الفترة الحالية.
تذكرت رد فعل فادي وقتها، لقد ضمها قائلاً أنه لا يهتم ما دامت هي معه، عرضت عليه تطليقها والزواج بأخرى فنهرها قائلاً ماذا يفعل بطفل لا يحمل دماءها.
رغم وقوفه بجانبها وصبره على عقمها، إلا أنها بدأت في تناول بعض العقاقير التي وصفها الطبيب، وكان الشك يأخذ منها مأخذه، تحبه لدرجه جنونية لا تتخيل معها أن يكون لغيرها حتى عندما عرضت عليه الزواج بأخرى كان تدعو داخلها أن يرفض بشدة فمهما كان هو حب عمرها، قد يكون تصرفها فيه أنانية ولكن الحب في نظرها لا يخلو منها.
استيقظت من عالم ذكرياتها على رنين هاتف المنزل، ركضت مسرعة علّه يكون حبيب قلبها، لكن لم تستطع إخفاء الخيبة في صوتها عندما سمعت صوت والدتها القلق.
-آلو .. يا نجلاء
-أيوه يا ماما
-فينك يا بنتي قلقتيني عليكي، مش بتردي على موبايلك ليه ؟
-معلش يا ماما كنت نايمه ولسه صاحيه دلوقتي
- طب طمنيني، حصل إيه مع جوزك؟
-الحمدلله يا ماما ، كله تمام
- الحمدلله طمنتيني .. طب مش ناوية تيجي ؟
- مش عارفه .. هاشوف ظروفي كدا وأقولك
- ماشي يا حبيبتي، خلي بالك من نفسك
أغلقت الخط مع والدتها واتجهت إلى المطبخ تعد كوباً من الكابتشينو الذي تعشقه، ثم عادت به أمام طاولة الزينة تتفحص ملامح وجهها.
إنها ذات بشرة بيضاء كالحليب الصافي، عيونها زرقاء كزرقة السماء في صباح يوم رائق أما شعرها فكان يميل إلى الإشقرار مع حفاظه على درجة من البني الفاتح، كان اهتمامها الأكبر منصباً على رأسها فهي لا تحب النظر إلى جسدها لأنه ممتلئ بعض الشئ مما يجعلها تشعر بالخجل منه.
وقفت أمام المرأة تتأمل شكلها في ثوب النوم وكيف يبدو جسدها، كانت تبدو به فاتنة لكنها لم تعترف بذلك بل تنهدت بحزن وفتحت خزانتها.
استعدت للخروج وارتدت حجابها الأنيق وملابسها المحتشمة ثم تناولت مفاتيحها وهاتفتها ووضعتهم في حقيبة تحمل نفس لون ملابسها، وانطلقت في طريقها خارج المنزل.
***
سار على أطراف أصابعه متلفتاً حوله في قلق، تطلع على الدرج ولم يجد أحداً فبدأ يتسحب رويداً رويداً يحاول ألا يصدر صوتاً يلفت إليه الانتباه.
فجأه شعر بيد توضع على كتفه والصوت الذي كان يحاول الهرب من سماعه يسأله: على فين ؟
التفت إليه بتوتر: أبداً كنت بأتمشى
حياه بسخرية: بتتمشى وأنت بتستخبى ورا الكراسي والستاير ؟ وعلى طراطيف صوابعك ؟
سعل قليلاً حتى يجعل كلماته تخرج من جوفه واضحة: دي طريقة جديدة
- إممممم قولتلي .. طب يا أبو طريقة جديدة في كلام بينا لازم يخلص، قدامي على أوضتك
أشارت له حتى يسير أمامها فإنصاع مجبراً ... جلسا متجاورين وحياه تنظر إليه بينما ينظر هو أرضاً.
بدأت تنهال عليه باسألتها مستقصية عن معلوماته التي يملكها عن تلك السيدة الأربعينية، أخبرها أنها مطلقة ولديها طفلان أحدهما في سنه والأخر في بداية الثانوية.
-يعني عمرها يخليها تنفع تبقى مامتك، أنت إيه اللي خلاك تعمل ف نفسك كدا ؟ أنت فاكر أنك كدا بتحبها ؟
-أومال إيه ؟
- أنس يا حبيبي، أنت أصغر واحد فينا وأقل واحد أتمتع بحنان ماما –الله يرحمها-، ماما ماتت وأنت عندك ست سنين، أنت ما حبتهاش الحب بتاع واحد وحبيبته لا أنت حبيتها حب الابن ومامته بس عشان سنك صغير فمش قادر تفرق بين الإتنين.
-طب لو زي ما إنتي بتقولي كدا دي مشاعري طب وهي ؟
-هي ولادها معاها ولا مع طليقها ؟
-لا معاه لكن بيزوروها كل فترة
- أديك قولتها بنفسك، هي كمان ولادها مش معاها ومش عارفه تديهم الحنان دا لكن أنت موجود فبتديهولك أنت
-مش عارف بقى
صفعته على وجهه مازحة: ما تلويش بوزك دا ف وشي
-ما أنا مش عارف أعمل إيه دلوقتي
- اللي تعمله إنك تبعد عنها، لإنك طول ما أنت موجود هتبعد عن ولادها لإنها لاقت اللي يكون محتاج لحنانها وحبها فمش هتدور على ولادها اللي أكيد هي حاسه إنهم مش محتاجينها، خليها تدور عليهم بدل ما تحس بعد كدا بالذنب إنها بعدت عنهم وتشيل نفسك الذنب دا.
أكملت: وأنت ركز في دراستك عشان تدخل ثانوية عامة زي ما أنت عايز ومنها على كلية هندسة زي ما مخطط، بلاش التعارف بتاع النت دا يا أنس، الله أعلم الناس اللي فيه بيبقوا إزاي وغرضهم إيه
-ماشي يا ست حايويه
-إيه حايويه دي ؟
- دلعك، ما إنتي اسمك مالوش دلع بقى، والجيش قالك اتصرف!
نظرت له بمكر: بقى الجيش قالك اتصرف ها ؟
رأى بريق عينيها ففهم مقصدها، بدأ بالركض في جميع أنحاء المنزل وهي تلاحقه، خرجت زهرة تصرخ بكليهما.
- بس بس إيه الدوشه دي ؟؟، دلوقتي محمد ومصطفى يصحوا وهيبقى يوم مش فايت
توقف أنس عن الركض، ضرب رأسه بكفه: أوبس، تصدقي نسيت لا أنا مصدع لوحدي مش ناقص
حياه بصوت هامس: معلش يا زيزا العتب ع الذاكرة بقى
أنس مداعباً: بقى بتعيبي على حايوية وبتقولي زيزا ! .. ربنا يشفي
- ماله زيزا يعني ؟؟؟، اسم الله على اسمك اللي مقطع الدلع ياخويا
زهرة: بس منك ليها، أنتوا ناقر ونقير على طول كدا ؟
ثم التفتت إلى حياه: أنا هاروح أشوف خديجة وأجي، وإنتي خلي بالك من محمد ومصطفى هما نايمين بس خلي عينيك عليهم عشان عيشه بتريح شويه
حياه: ما تخافيش، سلمى زمانها جايه وهنقعد معاهم لو صحيوا ما تخافيش
استدارت زهرة إلى أنس: وأنت يا أنس روح ذاكر بقى وسيبك من اللعب دا، أنت ناسي إنك إعدادية ولو ما جابتش مجموع مش هتدخل الثانوية.
أنس: طيب طيب، أنتوا هتذلونا ولا إيه، أديني طالع
نادته حياه: ما تنساش اللي اتفقنا عليه ... ها ؟
أومأ موافقاً ثم صعد إلى غرفته، غادرت زهرة المنزل، واتجهت حياه إلى غرفتها تحاول الإتصال بحبيبها فقد بات الجو هادئاً.
***
دلفت حنان إلى الفصل المسئولة عن تدريسه مادة التربية الدينية، هي لا تلقنهم الدين فحسب ولكن تعلمهم كيف يكون الدين جزء لا يتجزأ من حياتهم؛ شاملاً ألفاظهم وسلوكهم.
لقد تخرجت من كلية التربية لتصبح معلمة، هذه كانت أمنيتها حتى تُحول التعليم من عقوبة يهابها الأطفال إلى فسحة ينتظرونها من وقت إلى أخر، فالتعليم متعة لمن عرف كيفية تحويله من مجرد مواد دراسية مملة رتيبة إلى مواد شيقة تلتصق بالأذهان بمجرد سماعها لا أن تتحرر من العقل بمجرد كتابتها في ورقة الإمتحان.
كانت ترتدي ثوباً أبيض يعلوه سترة رمادية وحجاب أبيض، ترتدي في أغلب الأوقات نفس ألوان ملابسهم حتى يشعروا أنها قريبة منهم وإليهم.
ما إن دخلت حتى توقفوا عن الحديث ووقفوا في احترام لدخولها، وضعت دفاترها فوق الطاولة المخصصة لها ورسمت ابتسامة غاية في الجمال تحمل لهم الكثير من الحب والحنان.
ألقت السلام وبعد أن ردوه، جعلتهم يجلسون وبدأت في دخولها بموضوع اليوم لكن بطريقة مختلفة كعادتها في كل مرة.
- قبل ما أدخل كنتوا بتتكلموا مع بعض، صح ؟
أومأ الجميع في موافقة، تابعت: كل واحد بالدور كدا يقولي كان بيتكلم ف إيه .. هنبدأ بيك أنت يا وائل
وقف ونظر حوله في توتر ملحوظ فهمت سبب توتره؛ فطلبت منه الجلوس وانتقلت إلى الذي يليه وهكذا.
وقفت فتاة ذات ضفائر بنية وقالت: كنت بأقول لنسمة إن ماما هتعملنا إنهارده بط وأنا مش بأحبه وهي قالتلي إنه مامتها هتعملها فراخ وأنا باحبها، وكنا عايزين نبدل سوا إنهارده عشان كل واحدة تاكل اللي بتحبه.
انتاب الجميع موجه من الضحك مما جعل الفتاة ورفيقتها تشعران بالخجل، أوقفت الضحك بحزم قائلة: أنا مش شايفه حاجه تضحك بالعكس، هما حلوا المشكلة بطريقة حلوة جداً، يعني بدل ما يقولوا إحنا مش هناكل اتفقوا يبدلوا سوا بحيث كل واحدة تاكل اللي تحبه، بجد أحييكوا يا بنات على فكرتكوا
وبدأت بالتصفيق يلحق بها البقية بعد أن حولت سخريتهم إلى إعجاب، شعرت الفتاتان بالفخر وجلست كل منهما مرفوعة الرأس.
عادت المعلمة حنان إلى الحديث: اللي نسمة وألاء قالوه دا مش عيب، بس العيب على اللي ما اتقالش
نظرت إلى وائل وكل من لم يستطع الإجابه: أنت ما جاوبتش ع السؤال تحب أقولك ليه ؟ ... عشان كنت بتتكلم عن غيرك صح ؟
نظر وائل إلى يديه المضمومتين وقد أحمر وجهه خجلاً، أكملت بهدوء: مش وائل بس اللي عمل كدا، كل واحد قام واتكسف يتكلم أكيد كان بيتكلم عن حد غيره
إلتفتت إلى السبورة وتناولت قطعة طباشير، كتبت بخط كبير يراه الجميع "الغيبة" بينما تتابع حديثها: ودي يعني تتكلموا عن حد مش موجود وفيه فرق بينها وبين النميمة
ثم أضافت "النميمة" إلى جوار الأخرى واتجهت إلى شرح الحديث لتستوعبه عقولهم: الرسول ﷺسأل الصحابه إذا كانوا يعرفوا معنى الغيبة .. فقالوا إن الله والرسول هما اللي يعرفوا .. فشرحلهم الرسول ﷺ أنك تتكلم عن أخوك وحش وتقول عيوبه والأخ هنا يعني مش أخوك من باباك ومامتك لا الأخ يعني أي حد بس قال عليه أخ عشان يوضح أنه حتى لو أقرب الناس ليك وتربطك بيه أي صلة ما ينفعش تعمل كدا.
رفع وائل يده مستأذناً بالحديث، سمحت له فقال: بس أنا ما اتكلمتش عنه بكلام مش فيه أنا كنت بأتكلم عنه بحاجه الكل عارفها فيه يعني مش حاجه جديدة
ابتسمت بهدوء وأجابته: نفس سؤالك دا الصحابه سألوه للرسول ﷺوقتها رد عليهم وقال: لو كانت فيه يبقى أغتبته يعني اتكلمت عنه في غير وجوده ولو ماكانتش فيه تبقى بهته يعني اتكلمت عليه بالباطل وافتريت عليه وفي الحالتين أنت ارتكبت ذنب كبير.
سألتها ألاء: هي الغيبة وحشة أوي كدا يا أبلة حنان ؟
ردت عليها بهدوءها: ربنا شبه اللي بيغتاب حد كأنه ماسك اللي بيتكلم عنه دا وعمال ياكل في لحمه وهو ميت
رأت الاشمئزاز على وجوههم فتابعت: شوفتوا عملتوا إزاي؟، أنتوا بقى كل مرة بتتكلموا عن حد وتغتابوه كأنكوا بتعملوا كدا.
سألها طالب أخر محتاراً: وطب العمل دلوقتي يا أبله ؟
نسمة: طب يا أبله ربنا هيسامحنا ؟
ردت عليها زميلتها: إن الله غفور رحيم
ابتسمت حنان: صح يا ندى، ربنا فعلاً بيغفرلنا، مش إحنا اتفقنا قبل كدا إنه ربنا بيحبنا أوي وبيخاف علينا خالص؟، يبقى أكيد هيسامحنا
وائل: طب وأعمل إيه عشان يسامحني ؟
حنان: تستغفر ربنا وأهم حاجه ما ترجعش تعمل كدا تاني
هتفت طالبة أخرى: أومال هنتكلم ف إيه يا أبله ؟؟
ضحكت حنان: هو مافيش حاجه تتكلموا فيها غير أنكوا تجيبوا سيرة الناس ؟، ممكن تتكلموا ف مادة من المواد، أو تقولي مثلاً طريقة جديده لعلاج مرض، أو العلماء وصلوا لإيه، تعلمي غيرك إنه يذكر الله فيه مليون حاجه غير الغيبة.
أضافت مكملة شرح الدرس: بس فيه ست مواقف ما تعتبرش غيبة
الأول: التظلم، يعني تروح وتشتكي للقاضي أو في البوليس مثلاً إن فلان عمل فيك كذا، أوسرق منك كذا
التاني: المساعدة في تغيير حاجه غلط، يعني تروح لفلان تقوله دا فلان بيعمل كذا وكذا وأنت اللي ف إيدك تساعده وتبعده عن دا
التالت: الاستفتاء، يعني تطلب النصيحة من حد فتروح تحكيله دا حصل كذا كذا .. أعمل إيه ؟
الرابع: التحذير، يعني سمعت مثلاً واحد بيقول إنه هيروح يضرب فلان، فتروح أنت لفلان دا وتقوله خلي بالك دا عايز يضربك، أو تروح لفلان دا وتقوله بلاش تشتري من الراجل الفلاني أصل حاجته وحشه، أو لما يسأل الأب مثلاً عن واحد عايز يتجوز بنته ساعتها تقوله الحقيقة عشان ممكن حياة البنت توقف على كلمة منك بس تقول كلمة الحق.
الخامس: إنه يكون الشخص دا بيعمل الحاجه الوحشه دي في العلن وقدام الناس، يعني مثلا بيضرب الفقرا وقتها ممكن تذكره بده بس ما تقولش صفة تانيه مش معروفة فيه
السادس: التعريف، يعني تقول فلان الأعمى أو الأحول، بس تكون صفة فيه وما تكونش بتقولها عشان تتريق عليه أو تقلل من قيمته
في الحالات السته دول ما تعتبرش غيبة
سأل أحد الطلاب: طب إيه هي النميمة يا أبله ؟
-النميمة بقى إنه الواحد ينقل كلام سمعه من واحد للتاني عشان يوقع بينهم، يعني مثلا أنت سمعت إنه وائل بيقول إن سعيد دا كداب فروحت لسعيد تقوله دا وائل بيقول إنك كداب ساعتها سعيد هيروح لوائل ويتخانق معاه عشان قال عنه كدا وتوقعهم ف بعض
نسمة: ودا عقابه إيه يا أبله ؟
حنان: مش هيدخل الجنة عشان الرسول ﷺقال: "لايدخلالجنةنمام"
سفقت بيديها قائلة بنشاط: يبقى إنهارده هنبطل نعمل إيه ؟
قال الجميع في نفس الوقت بحماس: هنبطل غيبة وهنبطل نميمة
هتفت حنان سعادة: شاطرين، يلا بقى نقرأ الحديث اللي بيمنعنا عن الغيبة
بدأت تقرأ والأطفال يرددون خلفها:-
"قال رسول الله ﷺ: أتدرونماالغيبة؟قالوا: اللهورسولهأعلم،قال: ذكركأخاكبمايكره،قيل: أفرأيتإنكانفيأخيماأقول؟قال: إنكانفيهماتقولفقداغتبته،وإنلميكنفيهفقدبهته."
***
جلست حياه إلى جوار صديقتها سلمى التي جاءت لزيارتها والكدر يعلو وجهها، سألتها سلمى عن سبب حزنها فروت لها ما حدث بينها وبين شادي ثم حديثها مع شقيقتها زهرة.
نصحتها سلمى أن تتبع نصيحة أختها مضيفة: زهرة معاها حق وبعدين هي أكبر منك وتعرف عنك
تنهدت حياه: شادي زعلان مني عشان رفضت، ولما جيت أكلمه قفل معايا بسرعة بس وعدني هيجرب مع بابا تاني
سلمى بغضب: وإنتي تكلميه ليه أصلاً؟ دا لو خطيبك ما ينفعش، إنتي أكيد جرا لعقلك حاجه يا حياه !
حياه بحنق: أوف بقى، سيبك مني، المهم إنتي عامله إيه ؟
سلمى مدعية عدم الفهم: الحمدلله
سخرت منها: ما أنا عارفه ياختي، قصدي على عريس الغفلة، جه ولا لسه ؟
-أه جه إمبارح
-اتكلمتوا ؟
-أيوه
-يا بنتي ما تنطقي مرة واحدة إنتي لازم تنقطيني!
تنهدت وبدأت تروي لها ما حدث، علقت حياه عندما انتهت من الحديث: يعني متجوز واحدة تانية ؟، وإنتي هتبقي رقم إتنين ف حياته، ووافقتي على كدا؟
سلمى شاردة: لا ما وافقتش، بابا رافض أصلاً لحد دلوقتي بس هو لسه عندنا لحد ما يديه بابا رأيه النهائي وكمان أخته ناهد بتحاول هي وصاحبه محمد مع بابا
نظرت لها حياه بترقب: وإنتي إيه رأيك ؟
أدارت رأسها بعيداً: مش عارفه
-إزاي يعني ؟
سلمى: أنا صليت استخارة قبل ما أقبله بس ...
نهضت من مكانه وجلست أمام صديقتها متسائلة بفضول: بس إيه ؟
- بس أول ما شوفته ما أعرفش حصلي إيه، حسيت إنه قلبي أتاخد مني، كأنه طار وسابني وراح له، اتكلمت معاه قليل وما كنتش عايزة الوقت يفوت
أطلقت حياه صفيراً مرتفعاً: أوعى بقى، وقعتي يا سلومتي ولاحدش سمى عليكي
ضربتها سلمى على ذراعها: بس بقى، إنتي بالذات ما أسمعش حسك
قاطعهما صوت بكاء التوأمين، تنهدت حياه: يلا قدامي ياختي ، أهو تدربي ع العيال شويه ههههههه
سلمى: فزي قدامي، صحوبيه تقصر العمر صحيح
صعدتا وقد استولى عليهما الضحك.
***
غادرت حنان الفصل بعد إنتهاء وقت حصتها، قابلتها صديقتها ورفيقتها في المدرسة وسارتا سوياً في اتجاه غرفة المعلمات.
-الأطفال بيحبوكي أوي يا حنان، تقريباً ماحدش بيغيب ف الفصل يوم حصة الدين بتاعتك
ابتسمت حنان: عشان أنا كمان بأحبهم، ما تنسيش يا هالة إن الأطفال بيحسوا باللي يحبهم
ضحكت هالة: قصدك إننا مش بنحبهم ؟
حنان مسرعة لإصلاح سوء الفهم: مش قصدي والله، بس ما تنكريش إنكوا - مش هأقول كلكوا- لكن أغلبكوا بيجي المدرسة ويدخل الحصص بس عشان المرتب بتاع أخر كل شهر مش عشان عايز الولاد يتعلموا وأنهم يحبوا المدرسة.
هالة: خلاص يا نونه مالك اتعصبتي كدا ليه ؟، أنا كنت بأهزر معاكي
وصلتا إلى غرفة المعلمات، اتجهت كل منهما إلى مكتبها، سحبت حنان كتاباً من درج مكتبها وفتحته أمامها دون أن تقرأ منه حرفاً، لقد اتخذته وسيلة تخفي شرودها.
إنها تحب الأطفال لأنها تراهم تعويضاً عن ابنتها المفقودة، لقد منعها زوجها من العمل فهو لا يحب أن تعمل زوجته، أطاعته لأنها أحبته بعمق تخلت عن حلمها بأن تصبح معلمة من أجله ولكن بعد فقدانها لطفلتها كذلك إنفصالها عنه عادت تبحث عن حلمها من جديد كطريقة تخرج بها من قوقعة حزنها وقسوة آلامها.
نفست في طلابها الصغار الحنان والحب الذين كانا من حق ابنتها، بدأت تشعر بالراحة وكذلك التعويض عن جرحها.
تنهدت خارجة من ذكرياتها واستجمعت شتات أفكارها لتصب تركيزها على الكتاب الممسكة به وانشغلت بقراءته حتى انتهى اليوم الدراسي فضبت أغراضها وغادرت منطلقة إلى منزلها.
***
طلبت المصعد وانتظرت هبوطه، رأها حارس البناية فاقترب منها وألقى التحية، ابتسمت وردت تحيته وسألته عن أخباره وأخبار زوجته وأيضاً أطفاله.
شكى لها من شقاوة الأطفال وعدم اهتمامهم بدراستهم كذلك المعلمين الذين لا يهتمون سوى بمن يأخذ معهم دروساً خصوصية مهملين البقية، كاد أن يبكي ولكنه تماسك على قدر مستطاعه.
-والله يا ست حنان لو معايا ما كنت اتأخرت واصل .. بس دول سبع عيال ومش ملاحج
شعرت بالحزن على حاله: معلش يا عم إسماعيل، لو الولاد محتاجين أي حاجه خليهم يطلعولي وأنا مش هاتأخر
صمتت قليلاً ثم أضافت: وأبقى ابعتلي صفوت عايزاه .. ماشي؟
حاول تقبيل يدها ولكنها تراجعت: ربنا يخليكي يا ست هانم، حاضر أول ما يرچع هاخليه يطلع
-طب عن إذنك بقى يا عم إسماعيل
كادت أن تصعد عندما أوقفها مسرعاً: صحيح يا ست حنان، فيه ظرف چه لشجة چنابك وكنت لسه هأطلعه للحاچة
استلمت منه الظرف وحيته صاعدة إلى شقتها.
دلفت إلى الداخل وقلبت الظرف بين كفيها لتجده يخص زوجها السابق.
جاءت الجدة ورأت ما تحمله في يدها: إيه الظرف دا ؟
-دا جاوب كان جاي لخليل
تأففت الجدة: يووووووه بقى، إحنا مش هنخلص؟، دا بقاله أربع سنين ناقل من هنا ولسه بيجيله جوابات ؟؟
تأملت الظرف ثم فتحته لتتأكد: دا تقريباً يخص الشركة اللي كان عايز يشتغل فيها في السعودية ودي كان باعتلها من زمان ودا الرد بتاعها .. كانوا قايلين إنهم هيبعتوا له لما يبقى فيه مكان فاضي عندهم
نظرت لها جدتها وحذرتها: أوعي تقوليلي إنك هتروحي تديهوله !
- أومال فتحته ليه ؟، ما هو ما دام مهم هاوديهوله لو كان مالوش لازمه كنت طنشت أو قولتله على التليفون
-طب اتصلي بيه خليه يجي ياخده ولا إنتي غاوية حرقت دم ؟
- عادي يا تيته، أنا كدا كدا خارجه هأروح أودي الشهرية بتاعت الصدقة
-تعيشي وتفتكري يا حبيبتي
تمعنت في ملامحها ثم قالت بحنو: وحشك ؟
أدارت حنان ظهرها وقالت بتوتر: إيه اللي بتقوليه دا يا تيته، دا واحد متجوز ومخلف من مراته كمان
أمسك جدتها بذراعها: بس دا ما يمنعش إنك لسه بتحبيه ووحشك
تجمعت الدموع بين جفنيها وقالت بصوت متهدج: ما بقاش ينفع يا تيته
ضمته جدتها إلى حضنها وشاركتها دموعها: معلش يا حبيبتي ... إن الله مع الصابرين، ربنا هيعوضك خير قريب
ظلت على هذا الحال حتى هدأت، استحمت وبدلت ملابسها ولكنها قررت سماع نصيحة جدتها وهاتفت خليل ليأتي ويأخذ رسالته، أخبرها أنه سيمر عليها بعد أن يُنهي عمله.
سمعت طرقاً على الباب أرتدت إسدالها وفتحت لفتى في السابعة عشر من عمره ببشرة قمحية: أهلاً يا صفوت أخبارك إيه ؟
-الحمدلله يا ست حنان ... أبويا قالي إنه حضرتك عايزاني خير ؟
-عايزاك تكتبلي أسامي المدرسين اللي عايز تأخد عندهم درس
-ليه ؟
-بص يا صفوت أنت مش عيل وأبوك كمان مش صغير وكفايه عليه هم لحد كدا، أنا هأكلم المدرسين وأتفق معاهم على دروسك والفلوس من جيبي
حاول الإعتراض ولكنها أوقفته: عارفه هتقول إيه، بس اعتبرهم سلفه، أنت ثانويه عامة وكلها سنة وتدخل الجامعة ولما تشتغل بشهادتك هاخد منك الفلوس دي، اعتبرها دين يا سيدي ماشي؟
-بس ...
- ما بسش، أبوك قلقان عليك وهو كفايه عليه اللي هو فيه فخلينا نخف عنه حملك ع الأقل، أنا كلمتك أنت عشان أنت راجل والموضوع يخصك، أبقى قول لأبوك بمعرفتك بقى ولا تحب أنا أقوله ؟
-لا أنا هأقوله .. كتر خيرك يا ست حنان مش عارف أشكرك إزاي
- يلا يلا، ركز في مذكرتك وجيب مجموع كبير وبكدا تكون شكرتني فعلاً
- حاضر، مش هأخلي حضرتك تندمي إنك ساعدتيني
-إن شاء الله
-عن إذن حضرتك
-اتفضل
أغلقت الباب ودخلت لتستعد للذهاب إلى الجمعية الخيرية التي تدفع بها صدقة جارية لوالديها عن طريق كفالة الأيتام وغيرها من دروب الخيرالتي تشارك فيها باسمهم أو باسم ابنتها.
***
كانت الساعة تقترب من السابعة مساءً عندما دق الباب فاتجهت الجدة لتفتحه هاتفة: كل دا يا حنان ؟؟ أنا القلق كان هيموتني
توقفت عن الكلام عندما رأت ذلك الرجل الذي بدأ يخالط شعره الكاحل بعض البياض، صاحب بنية قوية وعيون سوداء، سألها متعجباً: هي حنان مش هنا ؟
عقدت ذراعيها: وأنت مالك ومالها ؟، أظن كل اللي بينكوا أنتهى من أربع سنين من ساعة ما طلقتها وأتجوزت غيرها
تنهد خليل محاولاً تفادي الجدال مع السيدة العجوز: هي راحت فين ؟
تناولت الظرف من فوق الطاولة المجاورة للباب وسلمته إليه قائلة: أنت جاي عشان دا وأديني أدتهولك خده وروح بقى
أضافت: وياريت تبقى تقولهم إنك غيرت عنوانك، عشان مش كل شوية يجلنا جوابلحضرتك
عند تلك اللحظة وصل المصعد لتهبط منه حنان ضاحكة برفقة جارهم وطفله الذي لم يتجاوز الخمس سنوات.
داعبت حنان خصلات شعره الناعمة: ما تنساش تشرب اللبن وما تتعبش بابي معاك
طلب منها الجار برجاء: أه وصيه عليا يا حنان عشان مطلع عيني
نظرت إلى الصغير قائلة: لا نادر شطور وبيسمع الكلام ومش هيزعلك، صح يا ندوره ؟
أومأ نادر بطاعة: أيوه يا ماما حنان
ضمته حنان عندما سمعت كلمة "ماما" من فمه الصغير: حبيبي يا نادر، يلا روح مع بابي بقى
حيا والد نادر برأسه جدتها وكذلك ضيفها الذي مازال واقفاً على الباب رغم استغرابه من رؤيته فهو يعرف أنه زوج حنان السابق.
أمسك بيد ابنه ودخل شقته، ألتقت نظرات حنان مع الشرارات الصادرة من عيني خليل، اقتربت منه وحيته بابتسامة صغيرة: أهلاً ... إزيك يا خليل ؟
أطلعتها جدتها: أنا اديته الجواب بتاعه خلاص
أومأت حنان وقالت لخليل: طب عن إذنك
همت بالدخول إلى الشقة ولكنه أمسك ذراعها بإحكام وقال من تحت ضروسه: مين دا ؟
نظرت إلى يده الممسكة بذراعها مندهشة: سيب إيدي
تركها مكرراً سؤاله: مين دا ؟
نظرت إلى باب الشقة المقابلة حيث أشار: دا جارنا، دكتور بدر
-وسكن من إمتى ؟
أجابته مستغربة أسئلته: بقاله 3 سنين من ساعة ما مراته ماتت نقل هنا
تحدث بسخرية: ااااه قولتيلي، يعني بيدور على عروسة
هتفت بغضب عندما فهمت تلميحاته: لا ما قولتش حاجه، أنا وهو جيران وبس، كمان بأحب نادر ابنه جداً
ثم أضافت: وحتى لو فيه حاجه كدا دا شيء ما يخصكش، أنت بنيت لنفسك حياة جديدة ومستخسر فيا أعمل زيك ؟؟؟
خليل غاضباً: وهو أنا اللي كنت دمرت اللي ما بينا يعني؟؟ ... ولا إهمالي هو اللي ضيع بنتنا مننا ! ... ما تردي !
ترقرت الدموع بعينيها لم تجب على أسئلته بل دلفت إلى الشقة وأغلقت الباب في وجهه بقوة، انزلقت أرضاً تبكي وجدتها تنظر إليها في شفقة؛ فما تكاد تبدأ جروحها في الإلتئام حتى يظهر ما يعيد فتحها من جديد كأن لا فكاك لها من مخالبها.
غادر خليل نادماً على ما قال، ولكن ماذا يفيد الشاه سلخها بعد ذبحها ؟؟!
***
مرت عدة أشهر، تزوجت صديقتها المقربة سلمى من ياسين وغادرت معه إلى القاهره حيثيسكن، متقبلة العيش مع زوجته الثانية، أهٍ كم يجعلنا الحب نتقبل أمور لم تكن تخطر بالبال، لم نكن لنقبل بها إذا سمعنا عنها .. نستهجنها إن أخبرونا أننا سنفعلها.
كرر شادي تقدمه للزواج من حياه لكن والدها كرر رفضه، حاولت زهرة معه لكنه لم يقتنع بأن هذا هو الزوج المناسب لابنته بينما خافت حياه أن تحدثه فيفهم أن هناك إتفاق بينها وبين شادي أو علاقة ما .. فقررت الإنتظار في حين تدفع شقيقتها للحديث معه لكن بلا أمل.
فقدت حياه بعد فترة قدرتها على الصبر والتحمل وتحدثت مع والدها ليتأزم الوضع بينهما وترتفع أصواتهما في المنزل مما جعل الجميع يجتمعون ليروا ما يحدث.
- يعني إنتي تعرفيه!، خرجتي معاه من ورايا يا حياه ؟؟
توترت حياه ولكنها أجابته بصراحة: أعرفه يا بابا، بس ما قبلتوش غير مرتين تلاته بس
زاد غضبه: والله عال وعملتي إيه تاني يا بنت يا محترمة
-والله يا بابا مافيه حاجه إحنا بس اتكلمنا كلمتين وهو قال إنه هيجي يطلبني منك مش أكتر
صفعها والدها بقوة لدرجة أسقطتها أرضاً وأدمت شفتيها: بقى بعد التعب اللي أنا وأمك تعبناه فيكي تيجي إنتي تمرمغي اسمنا ف الطين ؟؟؟
ركضت زهرة تمسك يده باكية تحاول أن تكبح غضبه: يا بابا والله ما حصل حاجه
إلتفت إليه والدها بغضب: وهو إنتي كمان كنتي عارفه ؟؟ ... يعني أنتوا شايفني كيس جوافة بقى وما بقاش ليا لزمه
أقبل عليهم محمود: مين قال كدا يا حاج ؟، إيه اللي جرا ؟
نظر إليه والده: أنت كنت تعرف إن أختك على علاقة بالواد بتاع فوج البحث العلمي عشان الأثار اللي في الجهة القبلية من البلد ؟؟
نظر إلى والده وأخته بعدم فهم: لا أبداً، هو في حاجه زي كدا ؟؟
هتف بصوت أرتجت له أركان المنزل: دا اللي قالته الهانم بلسانها دلوقتي
لم يستطع محمود التماسك أيضاً أمام ما سمع فأتجه إليها وهي مازالت مطروحة أرضاً وجذبها من شعرها: بقى إنتي يا حياه اللي تعملي كدا ؟؟؟
ركضت إليه زوجته عائشة تحاول إبعاده عنها ولكن قبضته كانت تشتد أكثرعليها، صرخت حياه متألمه: والله مش زي ما أنتوا فاكرين، أنا كلمته كلام عادي والله
صرخ بها محمود: وكنتي بتقابليه إمتى وإنتي أصلاً ما بتخرجيش من البيت ؟؟
أكمل: كنتي بتنيمينا في العسل وتخرجي من ورانا تقابليه يا هااااانم ؟؟؟
صفعها: ما تردي !!
أجابته بصوت متهدج يحمل الكثير من الألم: كنت .. كنت بأقابله ... بالليل بعد ما تناموا
رفعت ذراعيها أمام وجهها متفادية الصفعة القادمة، قبل أن يتفوه أياً منهم بكلمة وضع الأب يده فوق قلبه متألماً وأوشك على السقوط.
صرخت زهرة: بااااااااابااااااااا
ترك محمود أخته وأتجه إلى والده يسنده إلى أقرب مقعد بينما انتلقت زهرة تهاتف الطبيب وعائشة تعاون حياه على النهوض وتقودها إلى غرفتها.
دخل عصام عائداً للتو من منزل خطيبته بعد أن أخبرته زهرة بأن الأمور أصبحت على ما يرام وقد تفهمت خديجة موقفه.
دلف خلفه أنس فبعد أن انتهى من درسه اتجه إلى أصدقائه ليلعب كرة القدم مما جعله يتأخر عن موعده.
كانت تمر بهذا البيت عاصفة شديدة، ظنها الجميع وقتها أكبر المصائب فلم يعلم أحد منهم أن القادم أعظم بل يجوز أنه الأسوء على تاريخ هذه الأسرة التي كانت -يوماً ما- من أسعد الأسر مجازياً، لأن السعادة أمر نسبي يختلف من أسرة إلى أخرى بل من شخص إلى أخر، فالبعض يجدها في المال والبعض في راحة البال وغيرها من وجهات النظر.
***
انهارت في غرفتها تبكي سوء ظن عائلتها بها، نسيت أن والدها رغم دراسته بالقاهرة وإقامته هناك عدة سنوات إلا أن دمه ما يزال دماً صعيدياً أصيلاً، رجل شرقي يقتله أن يُطعن في شرفه، هذا الشرف الذي يحيا ويموت حفاظاً عليه.
لقد ضغطت على موطن ألم كل رجل ليس فقط صعيدياً بل أيضاً شرقياً مسلماً، ما جرحها حقاً أن والدها وشقيقها ظنا بها السوء، لقد انعدمت ثقتهما بها تماماً.
دخلت عليها عائشة والحزن يبرز من ملامحها: إنتي كويسة ؟
اتجهت إليها حياه بلهفة: بابا عامل إيه دلوقتي؟
- الضاكتور لسه ماشي من عنده، صحته مش عال واصل، كانت هتچيله چلطة بس الحمد لله الضاكتور لحجُه هو محتاچ راحه وإن مافيش حاچه تزعچه مش أكتر وهيبجى كويس إن شاء الله.
جلست حياه على طرف فراشها تبكي بحرقة، ضمتها عائشة تحاول التخفيف عنها، اندفع الباب مفتوحاً على مصرعيه نتيجةدفع محمود له بشدة أوشكت على كسره، دلف وعينيه تقدحان شراً.
أمر عائشة بالخروج وقال لحياه: إنتي هتفضلي محبوسه هنا وحسك عينك تفكري تخرجي وإلا قسماً بالله العظيم لأكسر رجلك وأرميكي لكلاب السكك اللي عشقتيلي واحد منهم !
غادر ساحباً زوجته معه بعد أن أخذ منها هاتفها وأي وسيلة قد تحاول الوصول بها إلى شادي، سمعت حياه دوران المفتاح في الباب، لقد انتهى بها الأمر سجينة غرفتها.
***
مرت أربعة أيام، بدأ فيها فاروق يتعافى ولكن ببطء شديد لا يلحظ، كان البيت يسوده الحزن على ما وصل إليه الأمر.
توقفت حياه عن الحياة، لا تتناول إلا بضع لقيمات تساعدها على العيش لعدة دقائق وربما ساعات لا غير.
أشفقت زهرة على عذاب أختها لكن لم تستطع فعل شئ، أضطر عصام أن يسافر إلى أمريكا كما رتب حتى ينهي موضوع رسالته أملاً في إنتهاء الوضع قبل أن يستطيع أخذ أجازة.
دخلت عائشة إلى غرفة حياه تحاول أن تشجعها على تناول غداءها بينما حياه لا تفكر إلا بالغضب مما يفعله والدها وشقيقها بها.
ظلت تفكر أن الجحيم أفضل مما هي فيه، لم يحاول أياً منهما التحدث إليها أو فهم حقيقة الأمر منها، غضبها وحنقها عليهما يزداد يوماً عن يوم.
سمعت عائشة بكاء الصغيرين فتركت حياه متحسرة على حالها، لم تلحظ أنها نسيت هاتفها المحمول فوق الفراش فقد كانت تتحدث به قبل أن تدلف إلى حجرة حياه وذهب ولديها بعقلها وتركيزها.
لمعت عيني حياه ببريق مفاجئ وأمسكت الهاتف تدق أزراره متصلة بمن فرقوها عنه وقد حفظت أرقامه عن ظهر قلب: ألو
أتاها صوته ليعيد الدموع إلى عينيها بعد أن ظنت أنه أصابها الجفاف: ألو
-حياه ؟
- أيوه أنا، إزيك ؟
ضحك بسخرية: دا قصدك بعد ما أخوكي هددني إني لو ما مشتش من هنا هيقتلني ولا بعد ما ضربني علقة لسه خارج بسببها من المستشفى؟؟
صرخت بفزع: إيييه؟؟ هو عمل فيك إيه ؟
-لا أبداً ضربني علقة موت بس
-أنت كويس ؟
- لسه أهو شوية رضوض بس، قولتلك مافيش فايده وإننا نهرب دا أحسن حل ما صدقتنيش !
-أنا أسفة
-المهم إنتي عملوا فيكي إيه ؟
-حبسوني في الأوضة مش بيخرجوني منها
-صحيح دا تليفون مين ؟
- دا موبايل عيشه مرات أخويا
- أها، طب هتعملي إيه دلوقتي؟
-مش عارفه
- أنا هأقولك عرضي دا لأخر مرة .. أهربي معايا
-بس ...
- أنا مش هأصر عليكي أصلاً الكلام بعد اللي حصل دا مالوش داعي، لو عاجباكي أوي بهدلة أهلك ليكي وحبستك دي براحتك، بس ع العموم إنهارده الساعة 9 بالليل أنا راجع القاهرة تاني، لو غيرتي رأيك إنتي عارفه مكاني ... سلام
-ألو ... ألو ... شادي !
نظرت إلى الهاتف بعد أن أدركت إغلاقه للخط، ظلت تفكر مرراً في عرضه، هل تقبل أم لا؟، لقد ظن بها أهلها الأسوء رغم أنها رفضت الهروب معه ولكن ما جدوى رفضها، لقد أبى والدها إعطاءه فرصة كما منعها شقيقها أن تمارس أبسط الأمور مكتفين بحبسه فقط، لا يخاطبها في حبسها سوى عائشة التي تأتي إليها خلسة في عدم وجود محمود حيث يمنعها من الحديث إليها .. وزهرة التي ما عاد حديثها يُترك أي أثر في نفسها، وأنس ذلك الطفل الذي يدخل ليرى حالتها فيسرع بالمغادرة مخفياً الدموع التي تتجمع في مقلاتيه.
حزمت قرارها، سترحل عن هذا المنزل حيث لا يقدرها أحد، لقد أصبح هذا المنزل كالجحيم، لم يراعِ أحد مشاعرها ولا سعادتها فلماذا تراعيهم هي؟، نهضت تضب بعض الأغراض في حقيبة صغيرة وتفكر في طريقة للتغلب على أسرها.
لم تعلم ما ينتظرها من هوان، وأن الجحيم في منزل أهلها أفضل من الجنة في بعدهم، لم تفكر لحظة في قرارها وأن الجحيم الحقيقي هو ما تستعد له الآن بكل حماس، أهٍ لو يسبق الإنسان الحاضر بعقله مُفكراً بعواقب الأمور قبل إرتكابها لكان وفر على نفسه عذاباً وحمى نفسه من مُر الهموم، لكن بالنهاية يحدث ما كُتب له الحدوث فلا يقف أمام القدر مخلوق، فقد شاء الله وأمره نافذ لا نملك أمامه شيئاً سوى أن يجنبنا الله الندم الملعون.
تقلبت حنان في سريرها لا تستطيع النوم، تحارب الأرق منذ ساعات ولكنه يأبى الإنهزام، جلست في فراشها وبدأت تسرح في ذكرياتها التي لا تتوانى عن العودة إليها بكل فرصة.
كانت في السنة النهائية عندما حضرت زفاف صديقة لها، هناك في ذلك الزفاف حيث قابلت خليل، حاول التقرب منها ولكنها صدته، حادثها دفعته، تغزل بها فنهرته، كل ذلك وهي تخفي عنه بين ثنايا قلبه أنها عشقته.
ظل يحوم ويدور حولها حتى علم عنها كل صغيرة وكبيرة، في النهاية تقدم لخطبتها وعندما أطلعتها جدتها على طلبه كادت تفقد وعيها من السعادة.
وافقت عليه بعد أن استخارت ربها، فهي تستخيره في كل صغيرة وكبيرة في حياتها؛ فكيف لن تفعل في أهم قرار مر عليها في ذلك الوقت ؟!، إزداد حبها له كلما عرفته أكثر، تزوجا وعاشا في منزل منفصل عن جدتها وكان هو يتيم الأبوين.
بعد زواجهما بعدة أشهر تعبت جدتها من الوحدة وعدم وجود من يتابعها وتثق به، حينها أقنعت حنان زوجها بالإنتقال والعيش مع جدتها وبعد ذلك بفترة اكتشفت حملها.
كادت أن تحلق .. لا لا إنها حلقت بالفعل عندما تأكدت من الخبر، سترزق بمولود من حبيبها، ذلك الذي سرق قلبها سيهبها الله منه ذرية ونسخة عنه، صلت عدة ركعات شكراً لله على هبته لم يوقفها سوى إرهاق قدميها وإجبار خليل لها على إلتزام الراحة التامة والهدوء اللازم.
لقد غمرته السعادة الشديدة، لم تره يوماً بهذه السعادة، يا تُرى هل شعر بذلك أيضاً عندما علم بحمل زوجته الأخرى؟
تذكرت كيف مرت الأيام سريعة وأنجبت طفلتها، مرت أربعة أعوام حتى أتى ذلك اليوم المكلوم .. يوم عيد ميلاد صغيرتها.
صحبتها معها لتشتري ما يخص الحفلة فجدتها أصابها الزكام ولا تستطيع رعاية نفسها فكيف بطفلة صغيرة .. توسلت لخليل أن يحضر هو الأغراض لكنه رفض.
-طب خد إنهارده أجازة وجيب الحاجه مافيهاش حاجه يعني دا يوم
-عندي شغل كتير يا حنان مش فاضي
أنهى إرتداء حذاءه واتجه للخارج حيث تلعب طفلته، قبلها بحب ونظر إلى حنان مقترحاً: خديها معاكي، بنوتي حبيبتي مش بتتعب ماما مش كدا ؟
هزت رأسها نفياً بحركة طفولية: تؤ ... مامي حبيبتي أنا
ضحكا معاً، قبلته حنان مودعة: أصلاً شكله مافيش حل غير كدا
ألبستها وأخذتها برفقتها إلى التسوق، بدأت تختار الأشياء وهي تجلس في عربة التسوق حتى وصلت إلى قسم المحاسبة وقفت تحاسب الموظف، سلمته المبلغ المطلب واستدارت تحمل الأغراض وتنظر إلى المكان الذي كان ابنتها تحتله ولكنها لم تجدها !
ظلت تبحث عنها حولها بعينيها ولكنها لم ترها، سألها الموظف إذا كان هناك خطب ما، فأخبرته عن إختفاء ابنتها .. أسرع يطلع الأمن وظلوا يبحثون عنها.
اتصلت بخليل باكية تسرد عليه ما حدث وفقدانها أثر ابنتهما، أتى إليها مسرعاً لكن لم يضف مجيئه شيئاً سوى اللوم والضغط على أعصابها أكثر.
عادا إلى المنزل بعد ساعات من البحث المتواصل دون أدنى نتيجة، تكاد هي تنهار من الحزن، صرخ بها: إنتي إزاي تسيبيها تغيب عن عينيك ؟
-والله يا خليل هما 3 دقايق بس والله
- 3 دقايق لطفلة كانهم 3 ساعات، دا إهمال منك
-طب كنت هأعمل إيه يعني ؟، ما أنا كان لازم أحاسب الكاشير
- المفروض إنك أم ومتعودة تتصرفي، أومال الأمهات اللي في الدنيا بيعملوا إيه وبيحفظوا على ولادهم إزاي ؟!؟
-ما أنت لو كنت قعدت معاها اليوم دا أو كنت جبتلي الطلبات ما كانتش حاجه من دي حصلت !
-إنتي عايزة تلبسيني أنا المسئولية يعني؟
-لا عايزه ألبسهالك ولا حاجه بس عايزاك تعرف إني زي ما غلطت أنت كمان غلطت
نظر إليها بغضب ثم تركها ورحل.
ظلت بينهما حالة من الصمت حتى مر عام على إختفاء ابنتهما ولم يتم العثور على أي أثر لها، كانت تقضي يومها في الدعاء لها، تطلب من الله أن يحميها ويحفظها، يوقعها بطريق من يحبها ويخاف عليها.
وفي يوم جاء خليل طالباً منها إجراء حوار عاجل، أخبرها أنه لم يعد يستطيع، لقد تعب من حياته معها، لا يقدر على النظر في وجهها دون أن يتذكر ما حدث لطفلتهما، أنها السبب في ضياعها.
أنتهى الحوار بإطلاقه عليها يمين الطلاق لتصلها في اليوم التالي ورقة طلاقها مؤكدة ما حدث في قبلاً.
بكت وأنهارت أكثر .. عاونتها جدتها على الخروج من الأزمة، شجعتها على البحث عن حلمها الذي تخلت عنه بإرادتها، كان حسناً أنها طاوعتها؛ لقد وجدت ملجأها بين الأطفال فكانت ترى في كل طفلة ابنتها وفي كل طفل الولد الذي تمنت أن تنجبه في وقتٍ لاحق.
سمعت بعدها بحوالي الشهر أنه تزوج، ضحكت وقتها ساخرة، لقد رتب حياته من جديد، نسي ابنتهما فلم يعد يحرك ساكناً في القضية الخاصة بها، رغم جرح قلبها لزواج من أحبت من غيرها وكذلك إنجابه منها إلا أنها تمنت له السعادة، ووهبت حياتها للدعاء حتى يدلها العالم الخبير على مخبأها، فثقتها بالله كبيرة وأنه سيرد لها فتاتها يوماً ما.
مسحت دمعة فرت من عينها ونهضت تتوضأ وتصلي قيامها كما اعتادت.
***
دخل أنس الغرفة يزور شقيقته ويرى كيف صار حالها، رأت فيه فرصتها في الهروب، أقنعته أن يساعدها بالحصول على المفتاح الخاص بغرفتها دون توضيح الغرض من ذلك.
رفض في بادئ الأمر ولكنها أقنعته بطريقتها الخاصة وبإصرارها المستمر، استسلم في النهاية وأخبرها أنه سيحاول لكنه لا يعدها بالنجاح.
رضيت هي بذلك متأكدة من نجاحه، فلا أحد من عائلتها يحاول في أمر ويتركه دون أن ينجح به؛ فإما أن يناله وإما لا يحاول من الأساس؛ هم لا يقبلون الفشل.
في تمام الثامنة والثلث، دخل إليها أنس وقد حصل على المفتاح، قبلته شاكرة وتناولت حقيبتها الصغيرة التي سبق وأن أعدتها فور انصرافه؛ فلقد خاف من بطش أخيه إن رأه.
تسللت إلى الخارج فقد اعتادت على ذلك، وانطلقت تركض بعباءتها السوداء والحجاب الأسود، تقاوم كلما تعثرت حتى تلحق به قبل أن يرحل.
وصلت إليه وكان على وشك الرحيل، رأها فترجل من سيارته وانتظرها حتى وصلت إليه، رأى الحقيبة التي تملكها فعلم أنها قررت أن تختاره أخيراً، ابتسم في سعادة وحاول أن يضمها لكنها دفعته بعيداً بغضب.
-لا
أومأ متفهماً وحمل عنها حقيبتها وساعدها على الصعود إلى مقعدها بجواره، انطلق بسيارته الجيب ينهب الطريق بسرعة، كان ذهنها مشتتاً رغم وثوقها في صحة قرارها في البداية إلا أنها الآن تشعر أن ما أقدمت عليه سيجعلها تندم لما بقي لها من حياة .. مما جعل الخوف يتسرب إلى قلبها ولكن هيهات فهي لم ترجع عن قرار أتخذته من قبل ولن تتراجع الآن.
توقف شادي في استراحة على جانب الطريق ليعيد تعبأة الخزان بالوقود وانتهز الفرصة لإحضار بعض الطعام فمازال أمامهم الكثير قبل الوصول إلى القاهرة.
رأته يتحدث إلى الهاتف ولكنها لم تهتم فقد عادت تشرد فيما فعلت، ظلت تطرح على نفسها العديد من الأسئلة دون أن تجد لها إجابة شافية، هل علموا بغيابها الآن ؟، ما رد فعلهم على إختفاءها ؟، هل سيحزنون لفراقها أم سيعتبرونها كأنها لم تكن؟ ...
أفاقت عندما وضع شادي أكياس الطعام والشراب فوق فخذيها طالباً منها تناول بعضها فيبدو أنها لم تذق الطعام منذ عدة أيام.
تنهدت بقوة وبدأت تأكل رويداً رويداً ولكن المحصلة في النهاية أنها أنهت كل الطعام؛ كأنها تعمل على تخزينه ليفيدها خلال الأيام المقبلة.
***
دخل إلى الغرفة المخصصة له في السكن، ألقى جسده فوق الفراش لا يستطيع حتى نزع حذاءه، اتجه إليه شريكه في السكن فزعاً من مظهره وحالته التي تتدهور يوماً عن يوم.
-إيه اللي حصلك يا حمزه ؟؟
أجابه بتعب دون أن يفتح عينيه: مافيش حاجه .. مجرد إرهاق
نهره صديقه بغضب: دي مش طريقة شغل، أنت لو عايز تنتحر مش هتعمل ف نفسك كدا
أولى ظهره إلى صديقه قائلا بتأفف: يوووه أنت وماما عليا يا مُسعد !
- ما هي ليها حق طبعاً، أومال لو شافتك كدا دلوقتي هتعمل فيك إيه ؟؟
-طب سيبني أنام دلوقتي
-يا ابني أنت لا أول ولا أخر واحد ف الدنيا خطيبته هتسيبه عشان لاقت واحد تاني معاه فلوس وجاهز
أكمل: طب أحمد ربنا إنها جت على قد خطوبة وما وصلتش للجواز
انتفض حمزه ونسي النوم الذي كان مسيطراً عليه، هتف بغضب: أنا كنت قتلتها
ربت مُسعد على كتفه: طب الحمدلله إن ربنا نجاك منها بسرعة، بلاش تعاقب نفسك على حاجه مالكش ذنب فيها
فرك وجهه ورأسه: المشكلة إني كان ممكن أبقى جاهز من أول يوم شوفتها فيه بس أنا مكنتش حابب أعتمد على أبويا، كتر خيره إنه علمني وكبرني كمان هو اللي هيجوزني زي البنات ؟؟، أساساً حمل نجلاء مش سهل، لحد دلوقتي بابا بيساعدهم من وقت للتاني، كنت عايز ابدأ حياتي معاها بمجهودنا إحنا بس هي ما قدرتش واختارت الطريق السهل.
- ما تندمش أنك عرفت شخص وطلع مش قد توقعاتك وثقتك فيه ... لإنه دا هينمي عندك خبرة في الحكم على الناس ع المدى الطويل، يا سيدي أديك كسبت معرفة الشخص الواطي بيبقى عامل إزاي !، وعلى فكرة الحكاية دي مش بالساهل ها !
أضاف بجدية: وخلاص زي ما باعتك بعها والبادي أظلم زي ما بيقولوا ولا إيه يا باشمهندس؟
ابتسم حمزه بهدوء: معاك حق يا صاحبي
-يلا بقى قوم خد دوش عشان الساعة داخله على أربعه الفجر، وعقبال ما تخلص يكون الفجر أدن نصليه مع الجماعة بره وبعدين نريحلنا ساعتين قبل الشغل
نهض ينفذ ما أخبره به صديقه وبينما يضع رأسه أسفل الماء المتدفق من الكوب حيث لا يوجد في موقع العمل ذاك نفس الرفاهية المتاحة بالمدن والقرى عقد العزم على أن يخرجها من عقله نهائياً فهي حقاً لا تستحق أن يفكر بها حتى ولو بالسوء.
***
كانت الساعة تدق الخامسة صباحاً عندما وصلوا إلى القاهرة، انطلق إلى المنزل حيث يعيش وكانت حياه قد هيمن عليها سلطان النوم فلم تستطع منه فراراً.
كان المنزل ليس مجرد شقة بل إنه يمثل فيلا تحتل قطعت أرض ليست بالصغيرة بل متوسطة لكنها تقع في منطقة معزولة ... فلا يحيطها سوى حديقة يبدو من مظهرها أنه يتم الإعتناء بها جيداً، وأقرب منزل مجاور على بعد لا يُستهان به.
لم يرد إيقاظها بعد أن صف سيارته في جراج المنزل الخاص؛ فحملها بهدوء إلى الداخل وجعلها ترقد على أحد الأسرّه، لم تشعر بشئ بل استمرت في نومها هانئة.
***
انتهى الطبيب من فحص الطفلة مبتسماً بحنان، ناولها قطعة حلوى صغيرة لتتسلى بها في الخارج مع الممرضة بينما ينتهي من حديثه.
سأله أحمد: خير يا دكتور ؟
تنهد الطبيب: مع الأسف لسه مافيش تحسن ف حالتها
سقطت دمعة من عين سمية وهي تسأل: يعني مافيش أمل ترجع تتكلم تاني ؟
- الأمل مش بيموت يا مدام سمية، وطول ما في رب اسمه كريم يبقى أكيد فيه أمل، بس الفرق إنه التحسن دا هيحصل إمتى ... فالله به أعلم
سمية: بس مش طبيعي لطفلة ف سنها إنها ما تتكلمش، تروح المدرسة وترجع مش بتحكي إيه اللي بيحصلها، ولا صوت ضحكتها بنسمعه
لخص زوجها ما تريد قوله: يعني من الأخر البنت عايشه سن مش سنها، وشايله هموم أكبر من عمرها
نهض الطبيب من مقعده خلف المكتب ووقف يحدثهما مفكراً: اللي البنت مرت بيه نفسه كبير على عمرها، رد فعلها جه بردو كبير، بس أرجع وأقول الحمدلله فيه حالات تانية بيحصلهم رد فعل أفظع من كدا، فعلاً حالات لا يعلم بيها إلا ربنا.
تمتمت سمية: ربنا يشفي كل مريض ويصبر أهله
رددا خلفها: أمين
سأل أحمد: طب والعمل دلوقتي يا دكتور ؟
الطبيب: هي محتاجه حب وإهتمام، كمان محتاجه حاجه تقدر تخرجها من الحالة اللي هي فيها ويكسر القوقعة اللي محاوطه نفسها بيها
تساءل الزوجان في عدم فهم: إزاي يا دكتور؟
- الحاجه إيه هي بالظبط مش عارفها، بس حاجه أو حدث يخليها تتخلى عن موقف عدم الكلام اللي واخداه حاجز بينها وبين اللي حواليها، حاجه ما ينفعش تتحل إلا لو اتكلمت
-ودا نعمله إزاي؟
عاد إلى مقعده وأمسك قلمه يخط بعض أسماء أدوية: خلوها تاخد العلاج دا بانتظام وربنا يسهل، لما يجي أوان شفاها أكيد هتلاقوا الحاجه دي حصلت تلقائي
تناول أحمد الورقة من يد الطبيب ونهض برفقة زوجته، اتجها إلى الممرضة شاكرين لها اهتمامها بالطفلة ثم صحبوها معهم عائدين إلى المنزل.
***
تقلبت في نومها وفتحت عينيها على مهل، رأت سقفاً مزخرفاً وحوائط عاجية اللون، انتفضت .. هذا ليس بمنزلها فأين هي ؟؟؟، تحسست رأسها لتجد حجابها الأسود كما هو؛لقد انزاح قليلاً جراء نومها لكنه ما زال فوق رأسها، نهضت ترتدي خفيها خارجة لتبحث عن شادي فهو أخر من كانت معه.
تلمست طريقها إلى الغرفة التي سمعت صوت التلفاز يصدر منها، رأت شادي يجلس أمام الشاشة مستمتعاً بالفيلم الكوميدي المعروض لكن ما أدهشها أن هناك ثلاث فتيات يجلسن إلى جواره، إحدهن ملتصقة به ويدها تسريح على كتفه قطبت جبينها متسائلة عن هوية تلك الفتاة.
لاحظت فتاة من الأخرتين وقوفها على الباب فنادت على شادي لتلفت نظرها إليها.
نهض شادي فور رؤيته لها دافعاً بيد الفتاة بعيداً: أخيراً صحيتي ؟؟ كل دا نوم يا مفترية ؟
سألته بهدوء: هي الساعة كام ؟
أجابها بعد أن نظر إلى ساعة معصمه: الساعة 3 العصر
فغرت فمها في دهشة: أنا نمت كل دا ؟؟
ابتسم: ما يهمكيش، المهم إننا مع بعض دلوقتي
هبت الفتاة التي كانت تجلس إلى جواره وقالت ساخرة: مش هتعرفنا يا شادي؟
قدمها لهم وبدأ بتعريفهم عليها، أشار إلى من شغلت بالها أكثر: دي جميلة أختي التوأم، فعشان كدا هتلاقينا قريبين من بعض جداً
نظرت إليها حياه مستغربة، كيف تكون توأمه وليس بينهما أي وجه للتشابه فهي ذات شعر أشقر وإن كان مصبوغ عيون خضراء ولكنها أيضاً صناعية، نفضت عن رأسها هذه التساؤلات فلا يبدو أن ما تراه هو حقيقتها لتستطيع الحكم .. كما أن أغلب التوائم لا يشبهون بعضهم فعلياً.
أشار إلى التي تليها وكانت فتاة بيضاء الوجه سوداء الشعر والعينين، شعرها شديد النعومة والإنسياب على عكس شعرها المجعد، لم يدهشها إعلانه أن نيفين هي شقيقته الوسطى لكن ما أدهشها حقاً نظرة الشفقة الممزوجة بالحزن التي رأتها في عينيها.
نزعت عينيها عنها قصراً لترى أخته الثالثة والصغرى إنها فتون وكانت حقاً تحمل من اسمها الكثير فعينيها رمادية كعيون القطط البرية ورموشها طويلة تضيف إلى جمال عينيها سحراً لا يقاوم، كل هذا يصحبه بياض البشرة وشعر بني في جذوره ويميل إلى الذهبي عند أطرافه.
هؤلاء هن شقيقاته، لم يخبرها عنهن من قبل لكن لم يجمعهم شيء مشترك، فلا واحدة تشبه الأخرى ... لا بل يتشابهن، فثلاثتهن يرتدين ملابس قصيرة تستحي هي من التفكير في شراءها حتى، فواحدة تلبسفستان لا يصل إلى منتصف ركبتيها والأخرى ترتدي قميصاً صبيانياً فقط، أما أكثرهن احتشاماً فكانت نيفين حيث كانت ترتدي بنطال يتجاوز ركبتيها بقليل وفوقه تي شيرت بنصف كُم.
أشار لها لتجلس قائلاً: بصي بقى إنتي هتفضلي قاعدة هنا معاهم لحد ما نشوف حل ماشي؟
نظرت إليه مستفسرة: أنت لسه هتشوف حل ؟، ما الحل موجود
سألتها جميلة بسخرية: وإيه هو بقى يا سنيورا ؟؟
تجاهلت سخريتها مجيبة: إننا نتجوز
صرخت جميلة: نعم ياختي ؟؟
أومأ لها شادي أن تهدأ والشرار يتطاير من عينيه لتصرفها: استني يا جميلة، بصي يا حياه الجواز مش بالسهولة اللي إنتي فكراها دي
تحدثت بتحدي: ليه يعني ؟ أنا عندي 23 سنة يعني مش قاصر وأقدر أتجوز اللي أنا عايزاه وموافقة بظروفك إيه اللي يمنع بقى ؟
-اللي يمنع إنك لسه ما تعرفنيش كمان لسه ما رتبناش أمورنا ولا اتعودتي ع الجو اللي هنا، كمان عندي شغل ضروري لازم اعمله
شعرت بالمهانة وأن كبرياءها قد اندهس فنهضت من مقعدها، قائلة بتماسك: خلاص يبقى أنا ماشيه من هنا ولما بتبقى تخلص اللي وراك، واللي يمنعنا من الجواز يختفي أبقى دور عليا
أمسكها من ذراعها ضاغطاً على أسنانه: هتروحي فين ؟
هزت كتفيها بلا مبالاة: ف أي حته مش فارقه
نظر شادي إلى فتون لتتحدث وتحاول إقناعها، أومأت واتجهت إلى حياه مبتسمة: طب وليه ما تقعديش معانا هنا يا حياه ولا إحنا مش عاجبينك ؟
- لا طبعاً، هأقعد معاكوا إزاي وفي واحد غريب هنا ؟
شادي مدعياً الحزن: بقى أنا غريب يا حياه ؟
أومأت بثقة: مادام مافيش رابط حقيقي بيني وبينك تبقى غريب
أمسكت جميلة بذراعه: خلاص روح خلص شغلك أنت يا شادي ولما ترجع تبقوا تتجوزوا، وأهو إحنا بنات بس اللي هنا هترفضي تقعدي معانا بردو ؟
أسرع شادي: هما يومين .. أظبط الشغل وأرجع نتجوز على طول
فتون بتوسل: يلا بقى يا حياه بلاش تزعلينا منك
مررت نظراتها بينهم بالتساوي حتى توقفت عند تلك العيون الصامتة التي تنصحها بأن ترفض بل تخرج من هذا المكان فوراً، ألا تستسلم لتوسلاتهم، لكنها لم تفهم كل تلك الكلمات فليس لديها الخبرة الكافية في لغة العيون كل ما استطاعت رؤيته تلك النظرة الحزينة المشفقة عندما نطقت بموافقتها على عرضهم.
تهلل وجه شادي بالأخص وقرر أن يحضر غداءاً فخماً للأحتفال بهذه الليلة، معتبرها حفلة خطبتهما.
***
أسرعت الخطى في طريقها إلى المدرسة، إنها المرة الأولى التي تتأخر فيها إلى هذه الساعة فالساعة الآن تتجاوز الثامنة والنصف، لقد تأخرت في نومها بسبب انشغال بالها مما جعل النوم لا يصل إلى جفونها حتى وقت متأخر من الليل.
حيت الحارس، الذي يحمي أعراض الكثير من العائلات بدءاً من الطالبات وصولاً إلى المعلمات، مع ذلك يتقاضى مجرد فتات، بل يصل ببعض الأهالي أن يلقوا عليه بعض الكلمات الحادة والحديث الذي يسم البدن كما يقولون.
سخرية القدر هي أن يكون شخص مثله يتقاضى بضعة قروش نهاية كل شهر، بل إنه إذا مرض أو لم يتواجد ليوم واحد خُصم ذلك من راتبه الذي لا يرقى ليكون راتباً من الأساس بينما أخر وظيفته أن يجلس خلف مكتبه دون فعل شيء في مكان كان غيره أولى به لكنه حصل عليه بالوساطه وتدخل أصحاب النفوذ الذين يعرفهم فيتقاضى أجراً بالألاف إن لم يكن أكثر على عمل يكلف به غيره ليقوموا به.
طرقت على باب غرفة المديرية لتعتذر لها عن التأخير، لكنها وجدتها تقف أمام طفلة وتقوم بتقريعها على تأخرها المستمر.
- أنا مش عارفه أهلك فين، لا حد بيسأل عنك ولا حاجه، كل يوم تأخير مافيش يوم تيجي ف معادك
وقفت الطفلة تضم كفيها وتنظر أرضاً قائلة: أسفة يا أبله مش هأكررها تاني
المديرة بصرامه: كل مرة تقولي كدا وترجعي تتأخري، كل مرة باعديها لكن المرة دي مش هتعدي ، اتفضلي روحي بيتك ولو باباكي أو مامتك ما جوش مش هترجعي هنا تاني، إنتي فاهمه ؟؟؟
بكت الطفلة متوسلة: والله يا أبله أخر مرة، عشان خاطري مش هأعملها تاني
أشفقت حنان على الطفلة فتدخلت: خلاص يا مدام سناء، هي مش هتكررها تاني
نظرت لها المديرة بتعجب: هو إنتي تعرفيها يا حنان ؟، بعدين البنت دي من أول السنة وهي ع الحال دا
حنان مبتسمة: على ضمنتي المرة دي يا مدام سناء
نظرت المديرة لوجه الطفلة الغارق بالدموع وطلب حنان الأول منها، وافقت فهي تحترم حنان بشدة وترى فيها نفسها أيام الصبا.
أومأت حنان للمديرة شاكرة ثم تناولت يد الطفلة وصحبتها معها، أوقفتها على باب فصلها الذي أخبرتها عنه ثم هبطت لمستواها تمسح الدموع من فوق وجنتيها الشاحبتين.
ابتسمت: ادخلي احضري الحصة بتاعتك وف الفسحة تعاليلي الأوضة بتاعت المدرسات ماشي؟
أومأت الطفلة في صمت وتركتها، نظرت إليها حنان بحزن فيا ترى ما سر الحزن الدفين في عينيها اللوزيتين .. فمن المفترض ألا تعرف سوى الفرح والمرح.
***
ليس كل ما يهواه المرء يناله، تأكد لها هذا عندما أخبرها الطبيب بأنها ليست حاملاً، وأن العلاج لم يؤثر بها حتى الآن، جلست على مقعد في حديقة عامة ترى الأطفال يركضون هنا وهناك، لقد حرمها الله من نعمة الأمومة، لم يكن لها ذنبها ولكنها تخاف أن يحملها زوجها حملاً أكبر من قدراتها على الاحتمال.
هو الآن لا يعترض لا يلومها لكن في المستقبل عندما يبدأ التعب في التمكن من جسده والمرض يظهر على السطح وعمله يزداد اتساعاً، وقتها هل حقاً لن يتمنى أن يرزقه المولى تعالى بطفل حتى وإن كان من غيرها؟
عند هذه الخاطرة شعرت بالغيرة تنهش قلبها، لا يمكنها أن تتحمل امرأة أخرى في حياة زوجها، أن تلمسه ويلمسها، تقبله ويقبلها، يضحك لها وتبادله الضحك، إنه زوجها هي من حقها وحدها.
نهضت بتكاسل فيجب عليها العودة لتستعد لاستقبال زوجها، ستوليه المزيد من العناية حتى لا تدع له مجالاً للتفكير بالزواج من أخرى.
في خضم ظنوننا ننسى مشاعر غيرنا، أن ما نظن أنه سيعجبه في الحقيقة قد لا ينال رضاه، فاذا كان الحب عامراً بينهم يبدأ الكتمان والصبر في الظهور، ليتحولا في وقت لاحق إلى ضغط،ولكن لن يستمر الضغط والكبت طويلاً حتىيولدا الإنفجار لكن ليس كأي انفجار، إنه انفجار يتحول فيه الظالم إلى مظلوم والغالب إلى مغلوب.
***
مر أسبوع كامل على غياب شادي، كانت تفكر في عائلتها وما يحدث لهم الآن لكن ما الجدوى لقد ظنوا بها ما ظنوه فلا إختلاف الآن.
الشك تسرب إليها، شادي يتهرب من الزواج بها، لم تحب يوماً أن تحكم على الشخص بدون دليل، اتخذت قرارها ستتحدث إليه عندما يعود اليوم مساءاً فإذا لم يعد يرغب في الزواج منها فلترحل عنه.
نظرت في المرآة متعجبة، إنها لا تهتم إذا تزوجها أما لا، كيف ذلك وهي من المفترض أنها تحبه.
جلست على الأريكة الموجودة إلى جوار النافذة، لقد قرأت أن من يحب لا يستطيع العيش بعيداً عن حبيبه، كم من بطل وبطلة قاموا بالانتحار عندما فقدوا من يحبون، لماذا هي لا تشعر بأنها إذا ابتعدت عنه ستختنق أو كأن روحها ستقتلع من داخلها.
"يبدو أني لم أكن أحبه من الأساس، نعم .. لقد كان تحدياً لأن أبي رفض أي علاقة تربطني به وسجنني أخي في غرفتي يمنعني عن رؤيته، إذا تركا لي مطلق الحرية لكانت فسخت خطبتي لشادي الآن".
لقد اتفقت كل من حياه وسلمى على زواج الحب، ليس زواجاً تقليدياً كما حدث للعديد من صديقاتهم، حققت سلمى ذلك بغض البصر عن طريقته وزواجه الأخر.
يجب أن تحادثه بجدية، ستخبره حقيقة مشاعرها، لم تعد ترغب في الزواج منه، فليعيدها إلى عائلتها أو يسمح لها بالرحيل .. هم بالنهاية أهلها سيغضبون منها في البداية لكن سيسامحونها بالأخير.
ابتسمت بسعادة عندما فكرت بعودتها إلى منزلها، حقاً لم يكن يجب عليها الرحيل، ما كان هناك من داعي للعناد ووضع تحديات ليس لها أساس من الصحة، أعدت حقيبتها وقد أحكمت فكرة العودة برأسها ثم جلست تنتظر عودته.
***
رفعت حنان نظرها عن الدفاتر التي تقوم بتصحيحها، وجدت الطفلة التي قابلتها في غرفة المديرة تقف على بُعد خطوات من مكتبها مترددة في التقدم أكثر.
تركت ما بيدها ونادتها لتقترب، سألتها: قبل ما نتكلم ف أي حاجه مش تقوليلي اسمك بقى عشان أعرف أنادي عليكي ولا إيه ؟
همهمت الفتاة: سمر
ابتسمت حنان: عاشت الأسامي يا سمر .. ممكن بقى تقوليلي إيه اللي بيخليكي تتأخري دايماً ع المدرسة ؟
تجمعت قطرات الدمع في عيني الصغيرة ولم تجب، أشفقت عليها حنان وحاولت أن تساعدها على الحديث: تعرفي، أنا إنهارده اتأخرت على المدرسة بردو، أول مرة أعملها .. عارفه إيه السبب ؟
نظرت لها سمر بحيرة وترقب فتابعت شاعرة بالإنتصار لأنها لفتت ذهن الطفلة إليها: عشان تيته اللي كانت بتصحيني كل يوم إنهارده راحت عليها نومه هي كمان وعشان أنا نمت متأخر بليل مش زي كل يوم بدري
تمتمت الفتاة بحزن: ما أنا ماما ماتت فمافيش حد بيصحيني بردو
كأن قبضة حديدية اعتصرت قلب حنان حتى أدماه، لا يا صغيرتي ماتزالين صغيرة على هذا الحزن وهذه الفرقه.
تمالكت دموعها وهمسن بحنان دفاق: أنا ماما ماتت بردو وأنا صغيرة بس ما زعلتش .. عارفه ليه ؟
سألتها سمر بتعجب: ليه ؟
ربتت على شعرها: عشان أنا عارفه إن هي راحت عند ربنا، وربنا هيخلي باله منها أكتر مني ويدخلها الجنة، هتبقى مرتاحه من المشاكل والزعل، هتبقى قاعدة ف مكان كله أخضر من الشجر والزرع وحواليها ورد في كل مكان ومعاها الناس الكويسين بس وكمان هتكون مع باباها، ومش هتزعل تاني أبداً أبداً
- أيوه، بس هي بتوحشني
– ما هي بتوحشني بردو، بس لما بتوحشني أوي أوي بأقعد ادعي ربنا عشان يخلي باله منها واقرالها قرآن وأصلي كتيررر وقعد أقول يا رب ماما وحشتني أوي صبرني يا رب
-وإيه اللي بيحصل؟
- بأحس إني مبسوطة خاالص، وقلبي بيرتاح لإن ربنا بيحسسني إنها مرتاحه كمان كأنه ربنا بيطبطب على قلبي ويقولي ما تخافيش هي كويسة وأنا معاكي كمان ومش هنخلي حد يزعلك ولا يضرك
ثم أضافت وهي تغمزها بمرح: لما تحسي إنها وحشتك .. اعملي زيي وشوفي هتحسي بإيه وابقي تعالي قوليلي .. إتفقنا ؟
أومأت الفتاة باسمة، تجرأت حنان وسألتها: بس هو مش بابا معاكي عشان يصحيكي للمدرسة ؟
عاد الحزن يتجلى في عينيها، همست: بابا مسافر
نظرت إليها بتعجب: أومال قاعدة مع مين ؟
لم تستطع حنان سماع ما همهمت به فطلبت منها أن تعيد ما قالت، كررت الطفلة برهبة: مع مرات بابا
سألتها بتردد: مش بتحبيها ؟
حمدت حنان الله على عدم وجود باقي المعلمات في الغرفة لتتحدث معها بحرية دون أن تشعر الفتاة بالخجل، أضافت بابتسامتها الحنون: ما تخافيش مش هأقول لحد أي حاجه تقوليها، دا هيبقى سر بيني وبينك
شعرت سمر بالراحة لهذه المعلمة، لقد استطاعت حنان أن تدخل إلى قلبها دون مجهود يذكر، حدثتها الفتاة بما تحمله في قلبها الصغير: طنط مش بتفضالي، مشغوله على طول
-يعني مش بتصحيكي للمدرسة ؟
- لا، هي بتقولي لو عايزة تروحي مدرسة ابقي صحيّ نفسك
شعرت حنان بالحنق على تلك المرأة ولكنها قالت: طب ما تظبطي المنبه
نظرت أرضاً مرة أخرى: رن مرة وأنا ما صحتش على طول راحت كسرته وقالتلي إن مش عشان أنا هأصحى لازم البيت كله يصحى معايا
صمتت حنان تحاول الوصول لحل فعال فإلقاء اللوم على الأب أو تلك الزوجة ليس حلاً عملياً بل إنه لن يحل المشكلة، خطرت ببالها فكرة: إنتي ساكنه فين يا سمر ؟
أخبرتها سمر بعلامة مميزة في طريقها، هتفت حنان: إيه دا !، دا إنتي ساكنه قريب مني بقى، بصي يا سوسو أنا بأكون في المدرسة هنا الساعة 7 ونص، بس مافيش مشكلة لو جيت بعدها بشوية يعني .. أنا هأعدي عليكي في البيت قبل المعاد بتاع المدرسة بوقت كافي عشان تلبسي ونيجي المدرسة سوا وتلحقي الطابور كمان إيه رأيك ؟
لم تصدق سمر نفسها: بجد يا أبله ؟
-بجد يا حبيبتي، على الأقل مش هأمشي الطريق دا كله لوحدي ولا رأيك إيه ؟
عقدت الطفلة ذراعيها خلف عنق حنان: أنا بحبك أوي يا أبله
ضمتها حنان بقوة إلى صدرها وهي تشتم عبيرها: وأنا بحبك أكتر
قبل أن تخرج الدموع من محجرها أبعدت سمر عنها قائلة: يلا روحي كُلي سندوتشاتك بقى عشان الفسحة قربت تخلص
لم ترد، قلقت حنان فسألتها عن سبب صمتها، أجابت: أصل أنا مش معايا سندوتشات
-ليه ؟
-أصل .. أصلي نسيتهم لما كنت نازله بسرعة
علمت حنان أن الفتاة لم تخبرها الحقيقة ولكنها تجاهلت الأمور حتى لا تسبب المزيد من الحرج، قالت باسمة: طب أنا معايا سندوتشات بزيادة ناكلها سوا بقى إنتي واحد وأنا واحد .. كفايه عطلتك عن الفسحة
وافقت سمر صامتة وتشاركتا الوجبة سوياً، لقد كانت الطفلة شديدة الجوع لم تشعر أنها التهمت جميع الشطائر في ذات الوقت الذي تناولت فيه حنان شطيرة واحدة، حزنت على حالها فيبدو أن لا أحد يهتم بها ولا يتأكد من حصولها على الغذاء الكافي.
عندما أنهت سمر أخر شطيرة بيدها طلبت منها حنان: سمر، أنا هأطلب منك طلب ويا ريت ما تكسفنيش ... كل ما تضايقي أو تحصل معاكي مشكلة تعالي واحكيلي، اعتبريني زي ماما –الله يرحمها-.
تبسمت الفتاة وقبلت معلمتها: حاضر يا أبله
حنان: يلا بقى روحي الفصل عشان جرس الفسحة ضرب
ركضت سمر إلى فصلها مسرعة، فكرت حنان بأن تخبر والد سمر عن حالة الفتاة ولكنها تذكرت أمر سفره فقررت تأجيل ذلك إلى وقت أخر.
أصبح الناس قساه، تحجرت القلب وتيبست كجذوع الأشجار؛ ليستبدل الحنان بالقسوه، الحب بالكره ، الشفقة باللامبالاة، الإيثار بالأثره .. مما حول المجتمع إلى غابة يجور فيها القوي على حق الضعيف.
جلست مع أخواته يتسامرن حتى عودته، جميلة ما زالت تنظر لها بكره لا تعلم سببه ونيفين الشفقة لا تفارق عينيها بينما فتون أكثرهن قرباً منها، تحدثها وتداعبها باستمرار.
وصل شادي أخيراً، استقبلوه بترحاب، بعد بعض الوقت طلبت منه حياه أن تحادثه على إنفراد.
صحبها إلى غرفة المكتب، وقف ينتظر حديثها لكنها شعرت بهروب الكلمات من فوق لسانها كلما جمعت بضعة كلمات حتى قالت: شادي .. أنا ...
-إنتي إيه ؟
-أنا مش عايزه أكمل معاك
انتصب في وقفته مرهفاً مسامعه وسألها بهدوء حذر: إزاي يعني مش فاهم ؟
ضمت قبضتيها بشدة قائلة بارتباك: بص يا شادي .. أنا كنت فاكره نفسي بحبك بس .. بس قعدت مع نفسي وفكرت كتير لاقتني مش كدا
بغضب مكتوم سألها: وإنتي قدرتي توصلي لكدا إزاي ؟ بين ليلة وضحاها ؟
- لا أنا كنت بأقول لنفسي إنك لو مش عايز تتجوزني أنا هأمشي ومش هأتقل عليك أكتر من كدا .. يعني فكرت ف الفراق ومع ذلك...
هزت كتفيها متابعة: ماحستش بحاجه .. ماحستش إني ممكن أموت لو بعدت عنك أو إني مش هأتحمل بُعدك
ضيق عينيه بشدة وهو يكز على ضروسه: والعمل دلوقتي ؟
قالت بحماس دون أن تلحظ ردود أفعاله: ترجعني البلد عند أهلي تاني، ولو مش هتقدر وصلني لأقرب محطة وأنا هأتصرف
اقترب منها رويداً بخطوات هادئة متساوية كما يفعل الأسد قبل الإنقضاض على فريسته وعينيه تطلق شراراً أصابها بالشلل، همس: إنتي فاكره إنه دخول الحمام زي خروجه ؟ .. ولا فاكره إني ممكن أسيبك تطلعي م البيت دا ؟؟؟
نظرت إليه برعب حقيقي لأول مرة تشعر به في حياتها، تمتمت بصوت متحشرج: قصدك إيه ؟
أغلق باب الغرفة بالمفتاح ثم استدار إليها مقترباً منها: قصدي إن إنتي خلاص بقيتي ملكي، بتاعتي وبس .. دا بيتك من هنا ورايح
هزت رأسها بهستيرية وهي تتراجع للخلف: بس أنا مش عايزه
قبض على ذراعيها بقوة، رجها بشدة قائلاً بعنف: ما هو مش بمزاجك يا قطة !
جذبها إليه بعنف وبدأ في تقبيلها بأماكن مختلفة من وجهها، حاولت دفعه ولكن هيهات أن يتأثر الثور الهائج بخربشات قطة.
نزع عنها حجابها بالقوة، أمسكته تكافح للتشبث به لكنه بالنهاية استطاع أن ينزعه، دفعها أرضاً مثبتاً ذراعيها فوق رأسها، تصرخ بأعلى صوتها وما من مجيب.
ضحك بقوة ووحشية: مهما صرختي ماحدش هيساعدك، كل اللي هنا ماحدش منهم يقدر يقولي لا .. ولا حد فيهم يقدر يمنعني عنك .. فالأحسن تقبلي بمزاجك بدل ما يبقى غصب عنك !
تضرعت إليه باكية دون التوقف عن المقاومة: حرام عليك، سيبني .. بص خليني أمشي وأنا هاعتبر إنه مافيش حاجه حصلت ومش هأقول لحد على حاجه .. بس سيبني
سجن فكها بين أصابعه وقال مشدداً على كل حرف من كلماته حتى يضمن أنها استوعبت حديثه بشكل كامل: إنتي خلاص ما بقالكيش خروج من هنا
تابع ما كان يفعله وعاد صرخاتها للتصاعد من جديد، مزق ملابسها وهي تحاول الفكاك من بين قبضته.
بدأ جسدها يتهالك من المجهود الذي مارسته عليه ولكنها أبت التوقف عن المقاومة، دموعها تزداد إندفاعاً وظلت تردد بقلبها كلمة "يا رب" حتى لم يبق في وسعها قوة لتمتمة خافتة حتى...
استجمعت بعض قوتها وضربته بساقيها بينما يحبس ذراعيها في كفه، ما من جدوى مما تفعله فقد سيطر عليه الشيطان وجعله لا يتأثر ولا يشعر، يحاول الوصول لهدفه فقط.
تعالت صرخة مدوية على حين غرة ... فلقد تم الأمر ولم يعد هناك من مرجع.
***
رصت طعام العشاء تتشاركه مع جدتها لكن عقلها مازال شارداً في تلك الطفلة التي جار عليها الزمان، تتجرع كؤوس الوجع قبل أن تتعلم طريقة إمساكه بكفوفها الدقيقة.
لاحظت الجدة شرودها ولكنها لم تحاول الاستفسار منها عن السبب، إذا أردت ستأتي لتروي لها دون ضغط.
كانت خيالاتها تأخذها إلى أي مدى ستعاملها زوجة والدها بقسوه، لِمَ توقف القوي عن رحمة الضعيف والكبير عن العطف على الصغير؟، صار الظلم منطق الحياة والقهر سر لذتها.
لقد قرأت ذات مرة أن الظالم يظلم لأنه يحس بالمتعة في ظلمه كهتلر الذي كان عاشقاً للسيطرة والتحكم.
عندما توقف الناس عن استشعار مراقبة الله في كل عمل يقومون به، انتشرت جميع الصفات التي جعلت مجتمعنا في طريقه أن يصبح شبيهاً بديستوبيا .. هذا إذ لم يكن قد صار بالفعل.
خطر على عقلها فجأة .. ماذا إذا كانت ابنتها تشعر بنفس تلك المعاناة، تحيا الآن بين أشخاص فاسدون، تتجرع الظلم وتتذوق مرارة الألم.
لحسن الحظ أنهم انتهوا من العشاء، هربت لغرفتها تعبث بأحد الأدراج تخرج منه ثوباً زهري اللون، ضمته بشوق ولوعه إلى صدرها، تتلمس رائحة صغيرتها بين أنسجته، انكبت دموعها تغرقه وقلبها يتضرع إلى ربها .. "فلتحفظ طفلتي أينما كانت، أرزقها من يحبها ويحميها، يحنو عليها ويسقيها العاطفة التي لم أستطع أن أمنحها إياها".
لماذا يا الله تحرمني من طفلتيبينما الآخرين ينعمون بدفئ ضمتهم، لقد تزوج خليل بأخرى لما هي تقبل خد صغيرتها كلما شاءت وأنا حُرمت من بهجة رؤيتها ؟؟
استفاقت إلى حالها، استغفرت ربها راكضة مسرعة إلى حمامها تتوضأ والاستغفار لا يترك لسانها، سجدت إلى ربها باكية متأسفة، تتوسل إلى ربها أن يسامحها، لقد أضعفها شيطانها ولكنها قفزت عائدة لرشدها.
بدأت تدعو متضرعة: أسفة يا ربي ... سامحني وأغفر ذلتي، لا أعترض على مشيئتك فأنت أرحم الراحمين، أرؤف بقلب أم مكلومة حزينة لفراق طفلتها، فتك الشوق بقلبها الضعيف.
أنتهت راقدة على سجادة صلاتها وثوب صغيرتها يستكين بين أحضانها كأن الملابس تعبر عن شوق صاحبتها في الحصول على هذا الحضن الدافئ.
***
التوتر يملئ جو الحجرة كذلك الصمت هو السائد، استمر شادي في الذهاب والمجئ ثم توقف فجأة قائلاً: أنا هأدخل أشوفها
اندفعت نيفين ناهضة: لا خليك أنت .. أنا هاروح
جميلة: ما تخليه هو يروح يشوف البرنسيسة
وضحت نيفين: هو لو راح هترجع تتعصب ومش هنقدر نهديها .. علينا من دا بإيه ؟
أيدتها فتون وسمح لها شادي بالدخول إليها.
طرقت الباب عدة طرقات بهدوء لكن ليس هنالك من رد، دفعت الباب متمهلة، نظرت حولها ولم تجد حياه بالغرفة، اشعلت النور لتتأكد فزعة وأعدت تمر ببصرها في أنحاء الغرفة.
وجدتها متكومة في ركن بعيد تضم ركبتيها إلى صدرها، الدموع تنهمر بلا توقف وجسدها يهتز ويرتعش .. اقتربت منها ولكن أبقت على مسافة ضيقة بينهما سألتها: عامله إيه دلوقت ؟
لم تجبها حاولت تتبع اتجاه نظراتها لتجدها تنظر لنقطة ما على الجدار المقابل، نقطة واهية .. لمست كتفها وكان ذلك كأنها اضرمت فيها اللهيب، بدأت تصرخ وتزيد انكماشها.
ابتسمت نيفين قائلة: ما تخافيش، دا أنا ... أنا نيفين
هدأت قليلاً ولكنها حافظت على صمتها، تنهدت نيفين واستندت ظهرها إلى الحائط بجوارها جالسة وبدأت تتحدث: ما تفتكريش أنك لوحدك اللي حصلك كدا، كلنا مرينا بنفس لحظتك دي
أضافت ضاحكة: إلا جميلة طبعاً، كله كان بمزاجها
إلتفتت إليها حياه بانتباه لكن ما تزال تحافظ على صمتها، تشجعت نيفين لمتابعة الحديث لعله يخفف عنها ولو القليل، شردت في نقطة أخرى على نفس الجدار الذي شردت فيه حياه.
- هابدأ بحكايتي أنا، أصل الواحد مش بيعرف يحكي صح إلا الحكايات اللي تخصه، أنا كنت عايشه لوحدي أبويا وأمي ماتوا وأنا عندي خمس سنين وخالي هو اللي خدني قال إيه عشان يراعيني، ما كانش عندي أعمام لإنه أبويا وحيد وأصلاً كل أهله ماتوا ... مقطوع من شجرة يعني، المهم خالي أصلاً ماكانش تمام، كنت بأشك فيه ساعات كتير، شغله مش معروف له قرار ... يوم يغيب وعشرة قاعد ف البيت، عدت السنين وأنا يادوب أخدت الثانوية وقعدني في البيت .. قالي كفايه عليكي علام لحد كدا يعني اللي اتعلموا كانوا خدوا إيه، طبعاً ما قدرتش أقوله لا ... دا هو اللي بيصرف عليا وكفايه حملي كل دا عليه ... ما كنتش أعرف أنه بيفكر ف حاجه تانيه ... إنه يجوزني لحد عشان يرتاح من مصروفي ويلاقي حد يديه كل فترة قرشين، والله ما كنت بأكل أيام عشان ما أحسسوش إني حمل تقيل لكن نقول إيه! ... فعلاً كان هيجوزني لواحد متجوز تلاته وأنا الرابعة .. عنده منهم تلاتاشرعيل وعمره فوق الستين، كتمت ف قلبي وعيطت على أحلام طفولتي ودعت الفارس وحصانه الأبيض ... بس ف أخر لحظة جت مراته التالته وقلبت الجوازه، وقتها حسيت إنه أخيراً خلصت ... بس خالي هو اللي ما هديش، حاول يجوزني كذا مرة بعد كدا لكن للحظ السئ أو الكويس ما بقتش فارقه ... ما نفعش، اللي ما أجيش على هواه واللي تحصل حاجه معاه فيلغي الجوازه كدا يعني ... خالي بقى يشرب حشيش والذي منه .. اتقلب حاله والقرشين اللي كان بيجبهم بقوا يطيروا ع الكيف، أخرت ما زهق مني جه وسلمني لشادي، قاله أهي عندك أعمل فيها اللي يريحك
ضحكت بوجع: وأهو عمل فيا اللي يريحه ... قال إيه يقولك الخال والد .. قطيعه
سألتها: يعني أنتوا مش أخواته زي ما قولتولي ؟
نظرت لها نيفين بجدية: وإنتي لسه ما فهمتيش؟ .. لا إحنا مش أخواته، هو إحنا لو كنا إخواته كان عمل فينا زي ما عملك فيكي من شوية ؟
سالت الدموع على وجنتيها متسائلة بألم: طب وهو ليه بيعمل كدا ؟
-عشان ينفع يشغلك
رفعت رأسها بحيرة: يشغلني إيه ؟
تحسرت على براءتها لكنها أجابتها لتفهم حقيقة الحياة التي ستعيشها الآن: بنت ليل يا حياه ...
***
ألم الفراق لا يصيب فقط من فارق محبوبته، إنه يكون أكبر وأعظم عندما يفارق الأب ابنه والأم طفلها، الأخ أخاه أوأخته .. لكننا اعتدنا أن نحصر بعض الكلمات على الحب فقط .. فعند ذكر كلمة فراق أول ما يخطر ببالنا هو فراق المحبوب وعندما نذكر الشوق نقصرها على شوق الحبيب لحبيبته؛ كأن الشوق لا يصير إلا لهما وليس من حق غيرهما .. فالأم تشتاق لولده بل إن القلب ليشتاق لقاء ربه والروح تشتاق للسلام النفسي .. وهناك الكثير من الكلمات الأخرى التي تخضع لنفس القاعدة لدى البعض.
كانت جدران المنزل تضخ حزناً كحزن أهل البيت، لقد أختفت الضحكة ورحلة الحياة عن المنزل مع رحيل حياه، من يرى المنزل يعتقد أن لا أحد يقطنه لكن ما يدل على وجود من يسكنه هو صراخ التوأمين الذي لا ينقطع منذ رحيلها كأنهما يعبران عن فهمهما لما يدور.
زهرة بعد انتهاءها من أعمال المنزل اليومية وإعداد الطعام الذي لا يمسسه أحد تتجه إلى غرفتها وتغلق على نفسها، تدعو وتبتهل أن يصون الله شقيقتها ويحميها من كل سوء لكن الأجل مكتوب ولا يرده إلا علام الغيوب .. أما الدعاء فيخفف وطأة الأقدار على صاحبها، فيشتد بأسه وتقوى عزيمته.
استمر محمود في حياته اليومية معتبراً شقيقته في عداد الأموات، لقد أساءت لسمعتهم بين الناس وكسرت كلمتهم ولم تقم لهم مقام، عائشة مشتتة تخفف عن هذا وتحاول أن تزرع العطف في قلب هذا بدلاً من القسوه كما أن حمل الوليدين ليس بالهين.
انزوى أنس بعيداً، لا يخاطب أحد إلا لماماً، شعر بالذنب عندما ساعدها فأخبر زهرة التي أطلعت محمود ليتصرف، أسرع إلى حيث يقطن شادي لكنه لم يجده لقد سافر ...
توقف عن متابعة الأمر ولم يحاول اللحاق بهما، لقد شاءت الذهاب إذا فلتذهب لم يعد لها مكان بينهم، حاولت زهرة أن تقنعه بالبحث عنها لكنه لم ينصع لتوسلاتها، إن رأسه يابسة كالحجر الصوان وإذا وضع شيئاً برأسه لا يزحزحه أحد.
أما كبير العائلة فاروق فقد شعر أن تربيته قد ضاعت هباءاً، لقد كانت أقرب أولاده إلى قلبه لذا فإن خطأها ترك أثراً ليس في نفسه فقط بل في صحته، تدهورت صحته يأكل ما يقيم صلبه، يتناول الدواء قهراً نتيجة لإصرار زهرة عليه دون رغبة في الشفاء.
هكذا صار الحال بين مدعيّ اللا مبالاة وبين الحزين المشتاق، تابينت المشاعر ولكن الأثر واحد فلا يمر يوم دون بكاء ولا تمر ساعة دون ألم وأنين .. لكن إلى متى سيستمر هذا الحال ؟؟
***
بعد أن غطتها بمفرش لطاولة في المكتب لتخفي ثيابها الممزقة أو بالأصح لتداري عريها، أوصلتها إلى غرفتها وتركتها ترتاح كما طلبت منها، تشعر بالشفقة عليها فقد مرت بما مرت هي به من قبل.
تقوقعت حول نفسها تنتحب، لم تصدق أذنيها عندما أخبرتها عن غايته منها، إذا لم يكن للحب بينهما وجود، أراد استغلالها فحسب لكن أن تكون نهايتها العمل كعاهرة !
إزداد بكاءها، لا .. لا تريد أن تكون زانية، أن تكون ملعونة تُطرد من رحمة الله، أن يتمتع أي كان بملامسة جسدها .. لقد كانت تصون نفسها لتهبها لمن يستحقها لكنها توقفت عن ذلك منذ عرفت شادي، كيف تكون صائنة لذاتها وقد قابلته سراً خفية عن الأعين المتلصصة دون علم أهلها .. لقد بدأت هي في إضاعة نفسها وما كانت النتيجة إلا ما تعيشه الآن .. "لكني لا أريد أن يكون هذا مصيري .. ماذا أفعل؟؟"
فكرت وفكرت حتى تذكرت .. لقد أخبرتها والدتها ذات مرة عندما أفاقت ليلاً مرعوبة من أحد الكوابيس أنها إذا شعرت بالخوف والفزع، وأن الدنيا بدأت تضيق من حولها وتكتم على أنفاسها تذكر الله وتسجد له، تتلو آياته وقتها ستحصل على السلام الداخلي الذي يجعلها ترى الأمور على حقيقتها ويلهمها التدبر في حل كربتها ومقاومة مخاوفها.
نهضت مسرعة تستحم وتغتسل مما أجبرت على تحمله، أبدلت ملابسها الممزقة بعباءة وحجاب، صلت وصلت حتى لم تعد قدميها قادرة على حملها فأنتهت ساجدة تبكي وتدعو الله أن يمنع عنها شر هذا البلاء، أن يبدلها خيراً.
فُتح الباب ودخل شادي ناظراً لها بسخرية: إزيك دلوقتي يا ستنا الشيخة ؟؟
نهضت من سجودها ونظرت له بعيون مغروقة بدموع الظلم مرددة: حسبي الله ونعم الوكيل فيك، حسبي الله ونعم الوكيل فيك
كز على أسنانه بقوة واقترب قابضاً على ذراعها يرجها بعزم ما فيه: بتحسبني ف مين يا بنت الـ ...
اندفعت نيفين إلى الغرفة تشد يده ليفلت ذراعها صارخة: سيبيها يا شادي .. سيبها
شادي بغضب جامح: خليني أعرف هي بتحسبن على مين بنت الـ... دي !
حاولت نيفين إمتصاص غضبه: يا شادي هي لسه مصدومة وبعدين ما تقنعنيش أنك متأثر أوي بالدعوة دي .. ما اعتقدش أنك أول مرة تسمعها يعني
حول نظره إليها ونفض ذراعها التي كانت تتشبث بها لتمنعه من التفكير في ضرب حياه، اندفعت أرضاً من قوته بينما غادر لا مبالاياً: إلهي تولعوا أنتوا الإتنين .. بلا قرف
استقبلته جميلة بدلالها على باب الغرفة فقد كانت تتابع الموقف بصمت منذ بدايته: معلش يا حبيبي سيبك منهم .. تعالى أن هابسطك وانسيك كل حاجه
ابتسمت نيفين بسخرية: حلة ولاقت غطاها .. ولا إيه رأيك ؟
نظرت إليها حياه ممتنة: شكراً إنك دافعتي عني
ثم أضافت بشك وتردد: بس إنتي ليه بتعملي معايا كدا ؟
لوت شفتيها فيما يشبه الإبتسامة: يمكن لإني لما كنت مكانك كنت بأتمنى حد يقف جنبي يساعدني .. يدافع عني
-طب ليه ما حاولتيش تهربي وتخرجي من هنا ؟
نهضت تنفض يديها مجيبة بسخرية: هأروح فين يا حسرة، عند خالي اللي أصلاً هو اللي رماني هنا ؟
بتفكير: تقدري تبني حياتك من جديد لوحدك من غير حد
ملست على رأسها المغطى بالحجاب قائلة بشفقة: إنتي يا طيبة أوي وبريئة لدرجة السذاجة يا إما غبية أوووي .. وفي الحالتين ماكانش ينفع يبقى اسمك حياه لإنه الحياة لا هي تعرف معنى الطيبة ولا هي تعرف معنى السذاجة
أردفت: هنا زيه زي السجن بالظبط يا حياه .. اللي يخرج من هنا دا لو قدر يعني .. بتفضل نقطة سوده ف حياته .. لا هو بيقدر ينساها ولا اللي حاوليه أصلاً بيسمحوا له ينساها .. نقطة سوده معاكي لحد ما تموتي .. لو اللي قدامك ما ذلكيش بيها هتشوفيها ف عيونه من غير كلام
تمتمت حياه بحزن: بس دا ظلم
-وإيه ف حياتنا ما بقاش فيه ظلم ؟
تمتمت: إنتي فعلاً طيبة أوي يا حياه وساذجة ف نفس الوقت، كأنك اتولدتي على هنا على طول .. قولتي عندك كام سنة ؟
- 23 سنة
ضحكت: 23 سنة مرة واحدة، دا اللي عنده 3 سنين دلوقتي بيعرف أكتر منك
استفسرت حياه محتارة: هي الطيبة بقت عيب ؟
- لا مش عيب، بس زيها زي الوردة الملونة اللي بتجذب النحل عليها عشان ياخد رحيقها، إنتي بقى بتجذبي مش النحل .. بتجذبي الدبابير اللي هتفضل وراكي تمص دمك لحد ما تخلص على براءتك دي
تركتها لحيرتها وتساؤلتها، لقد كانت تظن أن الطيبة ميزة ولكن بعد حديث نيفين شعرت أنها أكبر جريمة.
***
دخل إلى منزله متعب من طول طريق السفر، وجد شقيقته مرتمية في أحضان والدتهما تبكي وتنوح، تنهد بتعب محدثاً نفسه: هو يوم باين من أوله .. مافيش راحه إنهارده أنا عارف
لمحه والده فاتجه إليه يستقبله: أهلاً يا ابني .. حمدالله ع السلامة
-الله يسلمك يا بابا، أومال فين مي مي ؟
-بتلعب ف أوضتها
- طب أنا هأدخل أشوفها
هبت شقيقته صارخة: يعني جاي من برا وشايفني مفحوطه من العياط وما كلفتش نفسك تقولي مالك ؟!
رفع جانب شفته قائلاً بملل: هيكون في إيه جديد يعني؟ .. كالعادة خناقة تافهة من تفاهاتك وفادي مالوش ذنب
ضربت بقدمها الأرض كالأطفال: شايفة يا ماما ابنك بيكلمني إزاي؟؟ .. وبيقول عليا تافهة كمان !
نهرته سمية بهدوء: مش كدا يا حمزه، براحه على أختك
أشاح بيده متجهاً إلى غرفته: أنا هأروح أغير وأشوف مي مي أحسن، بس يا ريت يا ماما تواجهيها بعيوبها .. أنا أصلاً مش عارف فادي مستحملها دا كله إزاي ؟
غادر تاركاً شقيقته كالبركان الذي على وشك الإنفجار بل كان يدفع الحمم بالفعل من بواطنه، حاولت والدتها تهدئة انفعالها ملتمسة لولدها العذر: معلش يا بنتي هو من ساعة اللي ما تتسمى دي ما عملت اللي عملته وهو بقى بيقول كلام دبش من غير ما يوزنه ويعقله
نسيت نجلاء حزنها على نفسها وتحولت إلى الحسرة على شقيقها: فين حمزه اللي هزاره كان بيخليني هأموت على نفسي من الضحك ولا نصيحته اللي بتبقى بهدوء وتخليني أعملها غصب عني لأنه بيقنعني بيها مش بيرمي كلام ملوش طعم
تنهد أحمد: ربنا يصلح الأحوال ليه وليكي
***
"لا مُنجي منه إلا إليه" .. لقد رددتها والدتها دائماً تبعتها شقيقتها الكبرى لتخطو خطوات والدتها، هي التي حقاً لم تهتم، كانت المدللة التي تفعل ما يحلو لها، تجد دائماً من يحل لها مشكلاتها، اعتادت على رعاية ودلال الجميع لها .. رغم مقدرتها على الإعتماد على نفسها لكن صدق المثل القائل "اللي يلاقي دلع ومايدلعش يبقى حرام عليه".
لم تكن تدري أن كل من دللها كان يخاف على تلك البراءة التي تملكها من الضياع بسبب أُناس لا ترحم، قلوب كالصخر وضمائر من زئبق تتغير بتغير المصالح والرغبات.
سلمى ... تلك الصديقة الصالحة ، كم من مرة نصحتها بأن تخفف من تصرفاتها اللا مسئولة حتى لا تزيد العاتق على أهلها عن الحد.
لقد كانت سلمى جارتها وصديقتها، لعبا سوياً منذ كانوا صغاراً .. أقاما سوياً في القاهرة لدى عمة سلمى رغم أنها التحقت بكلية ألسن في حين إرتادت سلمى كلية اقتصاد وعلوم سياسية.. لم يكن ذلك الإختلاف اليتيم بينهما بل كان هناك الكثير من التناقضات الأخرى .. سلمى تتحمل المسئولية منذ الصغر فوالدتها لم تسمح لها بالدلال الزائد خوفاً عليها من الفساد، مقتنعة أنها ذات يوم ستصبح ربة منزل وقتها لن يتقبل أي زوج كان دلالها، دائماً ما كانت قريبة من ربها تناجيه باستمرار تتلمس رضاه في كل عمل تقوم به .. أما هي فكانت علاقتها به وقوفها بين يديه خمس مرات يومياً وصوم شهر رمضان ولا تعرف للمسئولية معنى في قاموسها الخاص وأغلب معرفته بالدين لا تتعدى ما أخذته في الإبتدائي خلال حصص التربية الدينية.
فهمت منطق والدة سلمى في عدم الدلال؛ فلولا دلالها لما تعشمت في حب عائلتها لها معتقدة أنها إذا هربت وتزوجت من أرادت ثم عادت إليهم سيستقبلونها بأذرع مفتوحة واسعة لا تحمل إلا التراحب.
انتحبت حتى جفت دموعها ولا يحمل قلبها الآن إلا شعور بالمرارة والحرمان، لقد حرمت نفسها من حضن شقيقتها الدافئ وعطف والدها عليها، مزاح أشقاءها معها.
مرت بذاكرتها جملة قالتها لها زهرة سابقاً لكن في حينها لم تُلقِ لها بالاً أما الآن فقد تأكدت صدقها .. "ماتنسيش اللي بيحب بجد مش بيفكر حتى يأذي اللي بيحبه ... واقتراحه دا لو عملتي بيه هيدمرك مش هيأذيكي بس! .. خلي الكلام دا حلقة ف ودنك" .. لكنها أسقطته من أذنها.
سجدت تناجي ربها: يا رب، أنا عارفه إني قصرت معاك كتير وبعدت عنك أكتر بس أنت ارحم الراحمين ارحمني واغفرلي، أنا كنت ضالة والمحنه دي هي اللي هدتني، مش معترضة على حكمتك مادام ف الأخر قدرت أرجع لطريق الصح ولطريقك .. لكن يا رب ساعدني .. أنا لو فضلت في المكان دا هأضيع بجد، هيخلوني بنت ليل واعمل حاجات من الكبائر .. يا رب انقذني من هنا، أنا خلاص مش هأضيع طريقي في الوصول ليك من إيدي بعد ما لاقيته .. بس أرجوك خرجني من محنتي وفك كربي
دخلت نيفين بعد أن طرقت الباب بخفة حاملة صينية عليها عدة أطباق، هذه وجبة غداءها، وضعت الصينية على الطاولة التي تحتل مكاناً أمام الأريكة المقابلة للنافذة.
نهضت واتجهت إلى نيفين: اقعدي يا نيفين، عايزه أتكلم معاكي
جلست نيفين وقد ضيقت بين عينيها منتظرة هذا الحديث المهم، تنحنحت حياه ثم قالت بجدية: أنا عايزه أهرب من هنا
أسندت نيفين ظهرها إلى الخلف وعقدت ذراعيها، سألتها بهدوء: وهتهربي إزاي ؟
-هو أكيد هيسافر تاني مش كدا ؟
- حتى ولو .. هتعملي إيه يعني؟
- هأهرب وهو مش هنا أو حتى يوم مايكونش فيه موجود هنا
- إنتي فاكره الهروب بالسهولة دي ؟؟؟
- مادام مش موجود هتبقى سهلة، لا جميلة ولا فتون هيقدروا يمنعوني خصوصاً جميلة اللي مش طايقاني أصلاً دي مش بعيد تطير م الفرحة
استقامت نيفين وقد شدت ظهرها: إنها ما تطقكيش حاجه وإنها تسيبك تهربي حاجه تانية
أردفت عندما رأت علامات التعجب تعلو وجهها: إنتي تعرفي إيه عن شغل شادي ؟؟
هزت كتفيها مشيرة إلى قلة معلوماتها: إنه بيشتغل مع باحثين أثار وبيلفوا البلد يبحثوا ف تاريخ الفراعنة .. أه ونسيت أقولك إنه شغال قواد
أضافت الجملة الأخيرة ساخرة، أعطتها نيفين إبتسامة ساخرة: بقى تهربي مع واحد ودا كل اللي تعرفيه عنه؟
أسرعت مضيفة: على العموم أحب أقولك بعيداً عن الشغلانه الأولى اللي أنا ما اعرفش عنها حاجه .. إنه يبقى قواد مش بالسهولة دي .. مش أي واحد يجيب كام بنت ويشغلهم يبقى قواد
-أومال إيه ؟؟
- الشغلانه دي ليها أصول، زيها زي أي مؤسسه أو شركه أكيد بإختلاف الهدف، القواد دا لازم يبقى له بوص، رئيس أكبر منه يأمنله الحماية من الباقيين عشان ما يتغدوش بيه قبل ما يتعشى بيهم
-وإنتي تعرفيه ؟
- لا، ماحدش يعرفه غير شادي وبس .. حتى مش بيقابله كتير، أوقات الضرورة وبس
-زي إيه الضرورة دي ؟
أشارت إليها: زي إنه يوريه الوجه الجديد اللي هينضم للمجموعة .. أومال فاكرة كل الصور اللي اتصورناها قبل ما يسافر دي كانت ليه ؟؟
-يعني مش هاعرف أهرب؟
وقفت على قدميها ثم سحبت حياه من يدها، أزاحت جزء من الستائر وأشارت إلى نقطة ما في الخارج.
تطلعت حياه متمعنة لتجد شخصاً مفتول العضلات كأنه يحيا على اللحم فقط وليس أي لحم بل لحم نيئ مما يجعله قادراً على إلتهام شخص كامل.
عادت تنظر إلى نيفين التي أشارت إلى نقطة أخرى لتجد نسخة طبق الأصل من الرجل الأول ولكن بإختلافات طفيفة.
-إزاي ما شوفتهومش قبل كدا ؟؟
-لما جيتي كنتي نايمة وبعدين مراية الحب كانت عمياكي يعني لو واحد فيهم قالك أنا أهو مش هتشوفيه بردو
جلست مجدداً قبل أن تضيف: كمان كانوا مستخبيين لحد ما شادي ...
قطعت جملتها متأكدة من وصول مقصدها، انهارت حياه إلى جوارها: يعني مافيش أمل ؟؟
-مش عارفه ، أنا ما حاولتش عشان أقولك
كأنها تذكرت شيئاً أردفت: على فكرة شادي كان عايز ينزلك معانا إنهارده الشغل أصله شايف إنك بتتدلعي وأخدتي فترة راحة كافية بس جاتله مأموريه فأجلها لحد ما يرجع .. ماينفعش واحدة جديدة تطلع أول مرة ليها ف عدم وجوده .. قوانين بقى
حاولت إحجام ارتجاف جسدها متجاهلة إحساسها الداخلي بالتقزز: مأموريه إيه ؟
-هههههههههه يا بنتي ركزي ف حالك .. ع العموم دي كلمة بيقولها على كل حاجه بيعملها مش عايزنا نعرف عنها حاجه
سألتها: هو أنتوا بس اللي بيـ ...
علقت جملتها لا تدري كيف تصوغها، فهمت نيفين قصدها: من القوانين بردو إنه أكتر من خمس بنات ف نفس البيت خطر .. عشان ما يوزوش بعض على الثورة .. هاهاها سلامات يا ثورة .. شادي مسئول عن كذا فيلا زي دي فيها من 3 لخمس بنات .. بس مش عارفه عددهم ولا مكانهم فين .. لكن بيبقى سايب مكان لوحدة جديدة تنضم ف أي وقت .. ما ينفعش يبقى أكتر من واحدة جديدة ف نفس المكان لإنه بيخلي البت تعصلج والدماغها تنشف أكتر ..
همت تغادر الغرفة قائلة دون أن تستدير إلى حياه: ما تفكريش تهربي إنهارده وإحنا مش هنا، الحراسه هتتشدد بره يعني بدل الإتنين اللي شوفتيهم هيبقوا عشرة فريحي نفسك عشان ساعتها مش هتنولي إلا الــ ...
لم تكمل الجملة التي ترددت أصداءها في جميع أنحاء الغرفة كأن الجدران أيضاً تحذرها من عدم اقتراف مثل ذلك الفعل الذي لن يعود عليها إلا بالمزيد من الضرر.
لكن السؤال الفعلي الآن، كيف عرفت نيفين برغبة حياه في المحاولة تلك الليلة ؟؟...
***
استعد حمزه متأنقاً للذهاب إلى مشواره مع صديقه مُسعد غير شاعر بأي تأنيب ضمير على طريقة حديثه هكذا أمام والديه مع شقيقته الصغرى، لقد كف عن شعور بأي شيء منذ أمد ليس ببعيد.
خرج من غرفته متجهاً إلى غرفة المعيشة، وجد مي مي تتسلى بمشاهدة التلفاز بينما والده يتحدث مع فادي عما سبب سوء التفاهم بينه وبين زوجته، تتابع والدته الموقف بإهتمام بينما نجلاء تدير وجهها للناحية المعاكسة مظهرة غضبها.
ابتسم بسخرية: أنت لسه فيك حيل يا ابني تيجي ترجعها ؟؟؟، دا أنا لو مكانك كنت زهقت وطلقتها من زمان
صرخت به والدته سمية: إيه اللي أنت بتقوله دا يا حمزه ؟؟؟
هتفت نجلاء بحنق: أنت عايز تخرب عليا يا حمزه !
اتسعت ابتسامته رغم أنها لم تصل إلى أذنيه: وأما إنتي عايزه ترجعيله وتتصالحوا سيباه بقاله ساعة بيتكلم مع بابا وهو ف نص هدومه ومش راضية تروحي معاه ليه؟؟!
ارتبكت نجلاء وبدأت في فرك يديها بشدة بينما تهز قدمها بتوتر جليّ، تنهد الأب متحدثاً بهدوء رزين: مالوش داعي الكلام دا يا ابني، هو جوزها وعارفها أكتر مننا وعارف طريقتها وراضي
فادي مبتسماً بسماحة: أعمل إيه يا حمزه .. بأحبها بقى
حمزه بضيق: يبقى استحمل يا كبير الذل
فادي بهدوء: الحب عمره ما كان ذل يا حمزه، الحب يعني اغفرلها لما تغلط ف حقي عشان هي تغفرلي لو غلطت ف حقها .. لو ما سامحتش مش هأقدر استنى إنها تسامحني وهنفضل على طول ف شد وحياتنا متعلقة بشعرة.
حمزه متحسراً: دا لو فيه حاجه اسمها حب أصلاً
وضع أحمد يده على كتف ابنه: فيه يا حمزه بس كل الموضوع إنه ربنا لسه ما أذنش إنك تقابله لحد دلوقتي
أومأ حمزه معتذراً بضرورة ذهابه فوراً لمقابلة صديقه، رحل مسرعاً فهو لم يعد يطيق كلمة حب في أي حوار يخوضه .. الحمدلله أنه سيقابل مُسعد ويلهيه بفكاهات التي لا تنقطع فهو يمتاز بخفة الدم لكنه يتحول إلى الجدية الشديدة أيضاً وقت الحاجه.
تم اللقاء واتفقا على الذهاب للعشاء سوياً، قال مُسعد متفاخراً: بما إنه الواحد لسه قابض بقى فأنا قررت أعزمك ومش ف أي مكان، لاااا ف أجدع مطعم فيكي أمصر
- ومن إمتى البزخ دا ياخويا ؟
- يلا، على الله يطمر
- يا شيخ إتنيل، أنت هتذلني على حتة عشوه لا راحت ولا جت ؟؟ خلاص مش لاعب
- يا عم تعالى بس، مين دا اللي يقدر يذلك يا باشمهندس
-واحد كدا يا باشمهندس
قهقه مُسعد: طب خلاص حقك عليا ويلا بقى لأحسن أخوك هفتان خااالص
جلسا على الطاولة يتابعان حديثهما الذي لا يخلو من المزاح، هدأ تفكير حمزه حتى أنه بادل مُسعد مزاحه بالمثل حتى ...
لاحظ انقلاب ملامح صديقه على حين غرة، حاول سؤاله عما جرى لكنه ظل ينظر لنقطة ما من فوق كتفه دون أي تعبير، إلتفت ليرى ما سبب هذا الضيق والغضب المكتوم داخل صديقه.
امرأة بحجاب لكنه لا يحمل أي صفات الحجاب بالمرة حتى إنه لا يخفي خصلات شعرها التي تناثر بعضها من الأمام هذا دون الحديث عن الملابس التي تشف أكثر مما تخفي، تنهد عائداً لصديقه: هي دي ؟
أفاق حمزه مزيحاً نظراته عنها وقال كأنه لم يفهم: قصدك مين ؟
أجابه بسخرية: اللي كانت عينك هتطلع عليها دلوقتي
بضيق: ما تتلم يا مُسعد
-معلش مش قصدي
تنهد: أنا اتصدمت بس لما شوفتها مش أكتر عشان كدا ما أقدرتش أحرك عيني من عليها
تحدث مشيراً إلى الرجل الذي برفقتها ويبدو عليه الثراء الفاحش: دا اللي فضلته عليك؟
أشار إلى النادل مغيراً مجرى الحديث: ممكن نطلب الأكل وبلاش نتكلم ف الموضوع دا
أراد مُسعد أن يخرج صديقه مما يشعر به الآن فمهما كان شعوره لن يكون جيداً عندما يرى من هواها قلبه ترافق رجلاً أخر، قال متصنعاً الحزن: بقى كدا يا صديقي الصدوق
استغرب حزنه: مالك قلبت ليه ؟
-مش عايزني أقلب وأنت مستعجل على أنك تدفعني فلوس!، إهئ إهئ ماكنش العشم يا صاحبي
ابتسم حمزه ولكنها ابتسامة صغيرة برغم ذلك شعر مُسعد بالتحسن فقد خفف عن صديقه ولو القليل.
***
دقت الساعة معلنة أنها الرابعة فجراً ..
ليس هناك من أحد غيرها في المنزل منذ العاشرة مساءاً، لقد ذهبن إلى عملهن كما أطلعتها نيفين سابقاً بينما سافر شادي في "مأمورية" كما يسميها تاركاً العديد مع الحراس أمام الباب.
نظرت من النافذة لتجدهم ازدادوا، لقد أصابت نيفين في نصيحتها .. اتجهت تصلي الفجر لكن ما كادت تنتهي حتى سمعت أصوات في الخارج فتأكدت من عودتهن أخيراً.
ذهبت لتراهن فهذه المرة الأولى التي يذهبن في عمل منذ قدمت إلى هنا، كانت تشعر بالقلق والإشمئزاز مما يحدث ولا تستطيع منعه .. بل إنه إذا حدث معها لن تستطيع منعه فكيف الحال مع غيرها ؟؟
وجدت نيفين تدلف برفقة فتون، ارتمت فتون على الأريكة بإنهاك بينما اتجهت نيفين إلى غرفتها متعبة قائلة أنها ستنام ولا تريد أي إزعاج.
لم تعرف حياه ماذا تفعل فجلست أمام فتون تراقبها وهي تنزع حذاءها عالي الكعبين في تعب حقيقي.
تساءلت: هو حصل حاجه ؟
هزت كتفيها: لا العادي بس
أشارت إلى الباب الذي يخفي خلفه نيفين: أومال مالها ؟
نظرت إلى حيث أشارت: قصدك نيفين؟؟ .. لا دا الطبيعي بتاعها .. أول ما ترجع مش بتبقى طايقه نفسها .. بتبقى قرفانه من كل حاجه
ساد الصمت، قامت حياه بإتجاه الغرفة لكن تحذير فتون أوقفها: سيبيها أحسن دلوقتي عشان أي حد بيكلمها ف الحالة دي بتشوط فيه .. أصلاً مافيش حاجه مهمة .. كلها تسيب نفسها تحت الدش ساعتين وبعدها تاخد حبتين منوم عشان تعرف تنام وتصحى الصبح ولا أكن حاجه حصلت
علمت حياه عدم جدوى دخولها فعادت تجلس وهي تسأل بتردد: إنتي إيه اللي جابك هنا ؟
رفعت نظرها لتسألها عن مقصدها ولكنها فهمت ما تشير إليه، تنهدت بألم تتطلع إلى السقف بشرود: أمي ماتت وهي بتولدني .. وأبويا ماصدق ماتت قام متجوز ف اليوم الواحد وأربعين من موتها على طول هههههه، بس واحدة عقربة .. فضلت تذل فيا وتطلع عيني من وأنا صغيرة .. حتى كنت أول سنتين عايشه مع جارتنا وصاحبة أمي ف نفس الوقت بس بعد ما اتفطمت أبويا خدني من حضنها وحنانها عشان يرميني في جحيم مراته .. هو يهمه إيه غير مزاجه ؟؟ .. يشتغل طول اليوم وهي تبهدل فيا طول اليوم ولو اشتكيت تلسعني بالمكوه .. ولما كنت بأشكيها لبابا تقوله دي كانت بتلعب وأنا بأكوي وقولتلها تقعد لكن ما سمعتش الكلام قامت المكواه وقعت عليها وأخد أنا التهزيء والزعيق كله وشوفي من دا كتــيـر أوي .. لحد ما قابلت شادي ف مرة، ما أعرفش ليه حكيتله كل حاجه من أول مرة قعدت أتكلم معاه، كنت ماشية وعربيته كانت هتخبطني بس ربنا ستر، بعدها أخدني عشان أشرب حاجه ف كافيتريا يكون اعتذاره ليا .. ما أعرفش ليه بس أنا روحت معاه ويارتني لا عرفته ولا حكيتله .. عذاب مرات أبويا أهون م القرف اللي عايشاه دا
-ما حاولتيش تهربي ؟
-حاولت مرة واحدة وبعدين قولت يا حسرة كله شبه بعضه .. ما بقتش فارقه كتير
-وإيه اللي حصل ؟ عرفوا يمسكوكي ؟
-أه، بعد ما قدرت أنفد من البيت واللي واقفين حواليه، فضلت ماشيه والمنطقة مافيهاش حد، ولا عربية مرت مش عارفه أنا اللي مشيت غلط ولا الحظ، المهم تاني يوم الصبح كانوا مرجعني تاني
-عملولك حاجه؟
رفعت تنورتها القصيرة بالأساس لتريها تشوهاً يعلو فخذها الأيسر ثم قالت بسخرية: ختم صغنون عشان أفتكر إنه كل ما أهرب هيحصل فيا كدا
انكمشت حياه، أليس لديهم أي رحمة، كيف يفعلون ذلك، أين القانون وإلى أين ذهبت العدالة ..
تأملت فتون الغرفة حولها بما تحويه من أثاث عصري يتفاوت لونه بين الأحمر والأسود كذلك الأبيض والرمادي، قالت: اللي إحنا فيه دا أكبر دليل على إنه المظاهر خداعه
-طب وجميلة ؟
-عايزه تعرفي حكايتها هي كمان ؟
-لو مافيهاش إزعاج
ابتسمت فتون ساخرة: مالك مؤدبه كدا ؟
أردفت تحاول تجميع كل التفاصيل التي تعرفها: جميلة دي الوحيدة اللي جت بمزاجها، كانت متجوزة واحد بس أكبر منها بكتير، طبعاً ماكانش موفرلها حاجه غير الفلوس عشان تدلع بيهم وكان بيديها زيادة عشان تفضل معاه وتستحمل سنه الكبير وإنه مجرد جواز على ورق مش أكتر، لكن ما يعرفش أوكان عارف ومطنش الله أعلم إنها بتقابل شبان من وراه عشان يعوضوها عن اللي راجل عنده سبعين سنة مش قادر يقدمهولها ... طبعاً فاهمة قصدي
أومأت متفهمة وقد شاب وجهها حمرة شديدة، تابعت: وف الأخر وقعت ف إيد شادي كالعادة وفضلت معاه لحد ما جوزها مات لكن بعد موته اكتشفت إنه ما سابلهاش ولا قرش كله راح لولاده من مراته الأولانيه وهي طلعت من المولد بلا حمص، وقتها بقى استلقاها شادي وفضل وراها لحد ما أقنعها تيجي تشتغل هنا معاه
فغرت فاهها بعدم تصديق: يعني بمزاجها ؟؟؟ إزاي ؟!
ضحكت بسخرية: يا بنتي ما هي كدا كدا كان ليها علاقات أيام ما كانت متجوزة ومش بعيد قبل كمان .. يعني هي هي الفرق الوحيد إنه المرة دي هتضمن فلوس مش هتطلع حتى من غير حمص
-هو بيدوكوا فلوس على دا ؟
- أيوه، أومال هنعمل كدا ببلاش؟؟ دا اللي ناقص كمان !
-وبتعملوا إيه بالفلوس مادام محبوسين بين أربع حيطان
أشاحت بلا مبالاة: عادي، بنجيب فساتين .. مكياچ.. نفسي ف حاجه بردو أجيبها
-بتنزلي تجيبيها لنفسك ؟
- لا بأبعت حد من اللي برا يجبلي
نهضت فتون من مقعدها وجلست على ذراع الأريكة التي تحتلها حياه، مالت تهمس في أذنها بتحذير: ما تحاوليش تهربي عشان مش هينوبك غير واحدة زي دي
أشارت إلى الحرق في فخذها ثم عادت تتحدث بصوت يحثها على الإنتباه: وبلاش تثقي ف أي حد مهما بينلك قد إيه هو واقف ف صفك وبيحميكي
نظرت لها حياه وسألتها بتردد: قصدك مين ؟
ربتت على كتفها: لاحظت قرب نيفين منك فحبيت أحذرك بس
حركت سببتها بوجهها: ما تثقيش بحد غير نفسك وبس، هنا كل واحد بيعمل لمصلحته، زي ما حد استغله هيحاول يستغل غيره .. حتى أنا .. ما تثقيش فيا .. لو قررتي ف يوم تهربي متحملة كل المخاطرة اهربي .. بس ماحدش يعرف إنك هتعملي كدا .. وقتها هتظهر الأنانية فعلاً
وقفت متثأبه: أنا هأدخل أنام بقى لأحسن مش قادرة
قالت حياه بلا تفكير: مش هتصلي الفجر قبل ما تنامي ؟؟
نظرت إليها فتون مصدومة وبعد أن تمالكت نفسها قالت بحزن: واللي زيي تتقبله صلاة إزاي ؟
ابتسمت حياه بحنان وربتت على ذراعها: استحمي وبعدين أتوضي وصلي .. ربنا عمره ما بيقفل بابه ف وش حد
قالت بتقزز: بعد القرف اللي أنا فيه دا .. أظن كل الأبواب اتقفلت ف وشي، إزاي أعمل كدا وأخر اليوم أروح أصلي وأقف قدام ربنا كأني ما عملتش حاجه
-طب وليه تقطعي كل الطرق اللي رابطه بينك وبينه ؟؟ .. مش يمكن الطريق دا اللي هتفضلي موصله نفسك بيه بربنا هو يكون سبب نجاتك من اللي إنتي فيه دا واللي عشتيه غصب عنك ! أو سبب غفران ربنا لأفعالك دي ؟
استمرت فتون تنظر لها وتفكر فيما قالت، بعد دقائق ابتسمت وضمتها قائلة: بجد إنتي طيبة أوي .. ما تستاهليش اللي إحنا فيه دا
أدارت يدها لترى حياه العلامة الموجودة بباطن معصمها، حدقت بها مصدومة فيما ابتسمت لها فتون: أيوه مسيحية .. بس هأصلي بردو زي ما قولتيلي
تركتها وانصرفت إلى حجرتها، سخرت من تفكيرها فما الفرق لدى هؤلاء بين مسلم ومسيحي أو حتى بلا ديانة .. المهم أن تتكيف مع الوضع وتحضر لهم الأموال.
***
سلم من صلاة الفجر ثم جلس يردد أذكار بعد الصلاة، تذكر رؤيته لها في المطعم وكيف كانت تضحك بسعادة مع من فضلته عليه.
ابتسم لنفسه بسخرية، لقد أحبها أشد الحب ولكنها قابلت هذا الحب بالخيانة والغدر، لم يخطئ بحقها ولم يفكر بأذيتها فلما تفعل ذلك به ؟
اتجه إلى المطبخ ليروي عطشه، وجد مي مي تحاول الوصول لزجاجة العصير دون جدوى، ابتسم وناولها الزجاجة: إنتي هتفضلي قصيرة كدا على طول ؟؟ .. هتطولي إمتى يا أوزعه
قطبت حاجبيها بغيظ وتحدثت إليه بلغة الإشارة فعاد يقول: يعني إنتي مش أوزعه ؟
هزت رأسها مؤيدة، أكمل: أومال ما عرفتيش توصلي للإزازه ليه يا طويلة هانم ؟
أشارت له بما تريد قوله مما أدخله في نوبة ضحك: بقى الإزازه هي اللي عالية عليكي
رأى غيظها أشتد إلى درجه قد تجعلها تنفجر، انخفض لمستواها كاتماً ضحكاته: خلاص الإزازه هي اللي طويلة ولا تزعل نفسك يا قمر أنت
ابتسمت مي مي بسعادة وسألته لما لم ينم حتى الآن، أخبرها أنه كان يصلي الفجر وشعر بالعطش فأتى ليشرب.
قدمت له زجاجة العصير ليشرب منها، رفض لكنها أصرت.
حمزه: خلاص إنتي شويه وأنا شويه ماشي ؟؟
أومأت موافقة، سكب كوبين من العصير لكل منهما .. تحدثا سوياً؛ تتلو عليه ما يفعله رفاقها في المدرسة معها وأنهم يسخرون منها لعجزها عن الكلام مثلهم.
رأى الدموع تترقرق في عينيها فشعر بغيظه يشتد، لما تصمت والدته عن الذي يحدث، سيحادثها في هذا الموضوع عندما يراها في أقرب فرصة إنما ما يجب فعله الآن هو أن يأخذ قسطاً من الراحة قبل التوجه إلى فرع الشركة التي يعمل بها لاستلام مشروعه الجديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق